على الرَّغم من أنَّ فكرنا يبدو مالكًا لهذه الحرية اللامحدودةِ فإنَّنا، عندما نَفحصهُ عن كثبٍ، نَجدُ أنَّهُ في الحقيقة مَحجورٌ عليه في حدودٍ ضَيِّقةٍ، وأنَّ كلَّ قُدرة للذِّهن الخلَّاق هذه، لا تتعدَّى مَلكةَ التركيب والنَّقلِ والزِّيادةِ والإنقاص للمواد التي تُزوِّدنا بها الانطباعاتُ – أي الخبرة والحواسّ – الناتجة عن التَّجربةِ.
ديفيد هيوم / مَبحثٌ في الفاهمَة البشرية.
لقد أُلبِسَ فكرُ هيوم عباءةَ التّجريبيّةِ الخالصةِ في النّقد، وهذا أمرٌ لا جدالَ فيه؛ فالرّجل يُعدُّ من أبرزِ واضعي الأسسِ الأولى للتّجريبيةِ الحديثة، وهو من رسمَ ملامحها الصّارمة في مضمار المعرفة. وبما أنّ التّجربة، عنده، تُشكّلُ العُقدةَ الفلسفيّةَ التي تسيرُ عليها كلُّ أفكارِنا، فقد كان من الضّروريّ - من هذا المنطلق - أن تشمل هذه الرّؤية حتى أعقد مكوّنات الذّات الإنسانية الا وهي:الخيال. إذ لم يتسامح هيوم مع أيّ نشاطٍ ذهنيٍّ يبدو منفصلًا عن التّجربة اذ انّه كان قد دأب لكشف الحجب حتى عن الخيال الذي ينشأ بعيداً عن الواقع الحسـي _المجرب_عند الأنسان ،بل أخضعَ الخيال ذاته لنفس القاعدة، كاشفًا عن أُصوله التّجريبيّة.
انها مفاجأة او لنقُل ومضةُ مُدهشةُ – تكمن في أنَّ هيوم لم ينظر إلى الخيال على أنّه قوّة مستقلّة تنشأ بعيدًا عن الإدراك الحسّي، بل اعتبره نشاطًا ذهنيًّا ثانويًا، ينتمي بدوره إلى عالمِ الواقع والتّجربة. فالخيال عنده ليس سوى صنيعةٍ من صَناعِ الحواسِّ، ووليدًا طبيعيًا لما يُقدّمه الإدراك من مادّةٍ أوليّة. وقد عبّر هيوم عن هذه الرّؤية بجلاءٍ في كتابه "رسالة في الطبيعة البشريّة"، حيث قال:
"الخيالُ حرٌّ في ترتيبِ الأفكار، لكنّه لا يستطيعُ اختراعَ فكرةٍ بسيطةٍ لم تمرّ عليه كإحساسٍ أو انطباعٍ مسبق."
والمقصود بذلك أنَّ الخيال - مهما بدا طليقًا ومتحرّرًا - لا يستطيعُ اختلاقَ محتوى جديد لم يسبق أن رآه أو أحسَّ به الإنسان من قبل، اي ان ليس بمقدور الخيال الخروج عن اطار الواقع هذا الا بكيفية تركيبية ينظّم بها المواد التي سبق وان استقاها من الواقع.!
وعلى ضوء هذه القاعدة، يُقدّم هيوم دليلًا يُعزّز به فرضيّته، من خلال حجّتين اكتفى في الاولى التي يقول فيها:
"حين نُحلّل أفكارَنا أو إدراكاتِنا، مهما بلغَت من سموٍّ أو تعقيد، فإنّنا نراها تتحلّل ابداً إلى وحداتٍ بسيطة، كانت قد نُسخت عن سابقِ إحساسٍ أو شعور – أي عن تجربةٍ واقعيّة – حتى تلك الأفكار التي تبدو لنا، للوهلة الأولى، بعيدةً عن كلِّ أصلٍ حسّي، نكتشف عند تمحيصها أنّها مشتقّة من ذلك الأصل نفسه."
ويضرب مثالًا قويًّا على ذلك بفكرة "الله"، إذ يرى أنَّ هذه الفكرة – من حيث كون الله كائنًا رحيمًا، حكيمًا، عليمًا، غير متناهٍ – ليست إلّا ناتجًا عن تفكير الإنسان في نفسه، وعن تصوّره لصفاته العقليّة والنّفسيّة، ومن ثمّ مضاعفتها بلا حدود، حتّى تنفلت من قيد النّقص البشري.
وبناءً على هذا السّلوك المطّرد للخيال، القائم على مراكمة التّجربة، نستطيع أن نخلُص إلى نتيجةٍ تبدو للوهلةِ الأولى متناقضة، ولكنّها – بالتحليل الجدليّ – منطقيةٌ تمامًا:
كلّما اتّسعت تجربة الإنسان في الواقع الحسّي، اتّسعت معها آفاق خياله ، وزادت قدرته على الانفلات في عوالمَ ميتافيزيقيّة واكثر لامحدودية واغزر سفـرا في فضاء اللاممكن، الذي هو بعينه نتيجة الممكن.
فالخيال الميتافيزيقيّ العميق، حسب هذه الرؤية، لا يُولد من التّرف العقليّ أو من رغبةٍ في التّجاوز فقط، بل هو نتيجة تراكم الواقع في الذّهن، وتحوّله إلى مادّةٍ قابلةٍ للتركيب والتّوسيع.
لم أنتهِ بأجتراح استنباطً كهذا، إذ لطالما نجد أنَّ للتّجربة مجالًا، وللرّوح الميتاطبيعيّة مجالًا آخرَ، يختلف في الجوهر والمصدر والغاية. غير أنّ قوّةَ منطقِ هيوم، وشفافيّة أسلوبه، وحلاوةَ أفكاره، تدفعُ الذّهن دفعًا نحو التّأمل وإعادة النّظر، بل تجعلُ من هذا الفصل القديم بين الحِسّ والخيال أمرًا لا يخلو من المراجع.