اخر الاخبار

ثمة سؤال ظل يرافقني طيلة سنوات، يعود إليّ كلما وجدت نفسي جالساً أمام شاشة الكمبيوتر، يحدق بي مؤشر الكتابة اللامبالي، وأنا أحاول أن أقتنص الفكرة من زحام الأفكار، وأعيد ترتيب الجمل في فضاء افتراضي بلا ملمس ولا روح: هل غيّرت التكنولوجيا جوهر الكتابة؟ هل لا يزال للإبداع النكهة نفسها حين ينزلق من أطراف الأصابع مباشرة إلى شاشات البرامج الحديثة، دون أن يسير الطريق الطويل عبر القلم والورق؟ صار كثيرون يفضلون أن يختصروا الطريق، أن يكتبوا أفكارهم مباشرة على برامج مثل "الوورد"، وأن يستغنوا عن متعة الورقة البيضاء التي تنتظر الحبر، وعن تلك اللحظات التي يمضيها الكاتب مع نفسه ممسكاً بقلمه، غارقاً في عالم خاص، يخلق فيه الكلمات من صمت وتأمل. وقد يبدو الأمر منطقياً، خاصة في عصر السرعة؛ لسهولة الحذف والإضافة والتعديل، حيث يمكنك أن ترتب أفكارك، وتعيد صياغتها بضغطة زر، لكن مع كل هذه السهولة أشعر أن شيئاً ثميناً قد فُقد على طول هذا الطريق المختصر. إن الكتابة على الورق طقس كامل، وتجربة روحانية تجمع بين حركة اليد، وصوت احتكاك القلم بالصفحة، ورائحة الورق التي تملأ الأجواء بشيء من الحنين، فحين تمسك بقلمك وتخط سطراً خلف سطر، تجد أن الأفكار تتدفق بحرية لا تقارن، وكأن الورقة تمتلك قدرة سحرية على استدعاء الإلهام. ومن مزايا الكتابة اليدوية أيضاً تلك العلاقة العميقة التي تنشأ بين الكاتب ونصه؛ فعند مراجعة ما كتبته بقلمك، تجد نفسك تعود لقراءة الحروف بعين متأملة، تلاحظ أدق التفاصيل، وتشعر بثقل الكلمة وخفتها، وتستطيع أن تستعيد الحالة الذهنية التي كنت عليها أثناء الكتابة، وهذا ما لا يحدث كثيراً عندما تكتب عبر لوحة المفاتيح. ولعل أجمل ما في الدفاتر أنها تحملك في رحلة عبر الزمن؛ سطورك بخط يدك تصبح جزءاً من ذاكرتك الحية، شاهدة على فترات مختلفة من حياتك، على أفكار كنت تحملها ذات يوم وربما نسيتها، لكنها باقية هناك، تحتفظ بكل شيء: مشاعرك، طموحاتك، مخاوفك، وحتى ملامح شخصيتك في تلك اللحظة. وأنا ممن لاحظت فرقاً هائلاً بين شهور أمضيتها أكتب فيها بالقلم، وأخرى اعتمدت فيها كلياً على الكتابة الرقمية؛ ففي تلك الشهور التي كان الورق فيها حاضراً كانت الأفكار أكثر تدفقاً، والإنتاج أكثر غزارة، وكأن القلم يوقظ خلايا خاملة في العقل، ويحرّض على الاسترسال، بينما الكتابة الرقمية -رغم سهولتها- تبدو أحياناً باردة الأحاسيس وجافة المشاعر، تفتقر إلى الروح التي يمنحها الحبر. ثم هناك بعد جمالي آخر يغفل عنه الكثيرون: هو ذلك الشعور الخفي الذي يتسرب إليك وأنت تمسك بدفترك، تقلب صفحاته، تمر بيدك على خطوطك، وتتنقل بعينيك بين العبارات، وتعيد اكتشاف نفسك. حتى تنوع الأقلام وألوان الحبر يضفي على التجربة نكهة لا تُنسى؛ فبعض الكتّاب لا يبدؤون إلا بقلم معين، وربما لون معين، كأن للحبر رمزية تهيئ الروح للكتابة. ولعلنا حين نتأمل في سير كبار الأدباء والكتّاب سنجد أن علاقتهم بالأقلام كانت رفيقاً روحياً ووسيطاً صادقاً بينهم وبين أفكارهم. كانوا يولون اختيار أقلامهم عناية خاصة، وتتنوع ميولهم في ذلك؛ فمنهم من لا يأنس إلا بالحبر الأخضر، ومنهم من يفضّل القلم الرصاص، وآخرون يرون في سواد الحبر رمزاً للرصانة والوضوح. ولا ريب أن اختلاف هذه الأذواق انعكاس لعلاقة حميمة وعميقة تجمع الكاتب بالقلم، علاقة تشي بأهمية هذه الأداة الصغيرة في مسيرتهم الإبداعية. والأهم من كل هذا أن اليد التي تهجر الكتابة بالقلم تضعف مع الوقت، كما يضعف الجسد إن هجر الرياضة؛ فالكتابة باليد تدريب مستمر على الصبر، على الانتباه، على دقة التعبير. إنها في ذاتها تربي الكاتب على الانضباط، على أن يفكر قبل أن يخط؛ لأن تصحيح الحبر ليس سهلاً كما في البرامج الحديثة. تظل الكتابة بالقلم تواصلًا صامتًا بين الإنسان وذاته، ورحلة نحو العمق، وتمرينًا على الإصغاء للأفكار قبل أن تصبح كلمات، ولعل ما يجعلني تمسكاً بها اكثر هو ذلك الشعور بأن الكتابة الورقية تمنحني فرصة لمحادثة نفسي بصوت مكتوب أحتفظ به للأيام القادمة تماماً كما يفعل الأصدقاء الحقيقيون، الذين مهما طال الغياب لا تخونهم الذاكرة. لهذا، سيبقى الدفتر والقلم رفيقين لا غنى عنهما، ما دامت في القلب فكرة، وما دام في العقل سؤال.