اخر الاخبار

كانت تلك سنتي الثانية في المدرسة الداخلية، وكنت جالسا على الرصيف رقم ثمانية في محطة أمبالا أنتظر القطار المتجه شمالا. أظن أني كنت في الثانية عشر من عمري وقتها. اعتبرني والداي كبيرا بما يكفي للسفر لوحدي، وقد وصلت بالحافلة الى أمبالا باكرا في الصباح.

قضيت معظم الوقت أتمشى جيئة وذهابا على الرصيف، أتصفح في كشك الكتب، أو أطعم البسكويت المكسر للكلاب الضالة. تأتي القطارات وتذهب، ويصبح الرصيف هادئا لبعض الوقت ثم، بوصول قطار، يصبح كتلة من الأجساد البشرية الجياشة، المتصايحة، فما أن تنفتح أبواب العربة حتى تندفع خارجة منها موجة بشرية على جامع البطاقات العصبي عند البوابة، وكلما حدث هذا أعْلق في الزحام وانجرف الى خارج المحطة، وعندما تعبت من هذه اللعبة ومن التمشي حول الرصيف وذهبت للجلوس على حقيبتي وأخذت أحدق بكآبة عبر خطوط السكك حيث تجري عربات الترولي مارة من أمامي أصبحت منتبها لصيحات مختلف الباعة، الرجال الذين يبيعون اللبن الخاثر والليمون، وباعة الحلوى، وصبي الجرائد.

غير أني فقدت الاهتمام بكل هذا الذي يدور على طول الرصيف وواصلت التحديق عبر خطوط السكك، شاعرا بالملل وبأني وحيد بعض الشيء. سألني صوت ناعم خلفي -" هل أنت لوحدك يا بني؟". نظرت الى الأعلى فرأيت امرأة تقف قربي. كانت منحنية علي ورأيت وجها شاحبا وعينين سوداوين عطوفين. لم تضع حلي وكانت ترتدي ببساطة شديدة ساريا أبيضا. قلت -" نعم، أنا ذاهب الى المدرسة"، ونهضت واقفا احتراما. بدت فقيرة، ولكن مظهرها يوحي بالوجاهة التي تستوجب الاحترام. قالت -" كنت أراقبك لبعض الوقت. ألم يأتي احد والديك  معك لتوصيلك؟" قلت -" لا أعيش هنا. علي أن أركب من هنا في قطار. على كل حال أنا أستطيع السفر وحدي". قالت -" أنا متأكدة من أنك تستطيع"، وأحببتها لأنها قالت ذلك، وأحببتها أيضا لبساطة ملبسها، ولصوتها الناعم الخفيض، ولصفاء وجهها. سألتني -" قل لي، ما اسمك؟". أجبتها -" آرون".-" وكم عليك أن تنتظر قطارك؟"-" أظن حوالي ساعة. يأتي في الثانية عشر".-"إذن تعال معي لتتناول شيئا من الطعام".

كنت سأرفض، خجلا أو ارتيابا، ولكنها قادتني من يدي وشعرت بأني سأبدو سخيفا لو سحبتها من يدها. أخبرتْ حمالا أن يهتم بحقيبتي وقادتني بعيدا الى طرف الرصيف. كانت يدها لطيفة ولم يكن امساكها ليدي محكما أو مرتخيا.

نظرت الى الأعلى نحوها مرة أخرى. لم تكن شابة، ولا عجوزا. لا بد أن عمرها كان متجاوزا الثلاثين، ولو أنها كانت في الخمسين لبدت بالشكل نفسه. أخذتني الى مطعم المحطة وأمرت بالشاي وكعك الساموسة والزلابية، وأخذت التهم على الفور متخليا عن التحفظ فيما انتابني اهتمام جديد بهذه المرأة العطوف. لقد كان للقائنا الغريب بعض التأثير في شهيتي. كنت طالب مدرسة جائعا، وأكلت قدر ما استطيع وبقدر ما يمكنني من التهذيب. استمتعت استمتاعا واضحا بمراقبتي وانا آكل، واعتقد أنه الطعام الذي قوى الرابطة بيننا ووطد صداقتنا، فتحت تأثير الشاي والحلوى بدأت بالتحدث بحرية تامة، وأخبرتها عن مدرستي، وأصدقائي، وما أحب وما أكره. سألتني بهدوء بين الحين والآخر، غير أنها فضلت الإصغاء. لقد جعلتني انفتح تماما، وسرعان ما نسيت بأننا غريبان عن بعضنا بعضا.

لكنها لم تسألني عن عائلتي أو أين نسكن، ولم أسألها أنا أين تسكن هي، قبلتها على ما كانت عليه بالنسبة لي، هادئة، عطوفا، وامرأة مهذبة أعطت حلوى لصبي وحيد... على رصيف محطة..

بعد حوالي نصف ساعة غادرنا المطعم وأخذنا نمشي عائدين على طول الرصيف. كانت توجد قاطرة تتحول على الخطوط بجانب الرصيف 8، وبينما كانت تقترب قفز صبي من الرصيف وركض عبر قضبان السكك متخذا طريقا مختصرا الى الرصيف التالي. كان على مسافة آمنة من القاطرة ولم يكن هناك خطر لو لم يسقط، ولكن بينما قفز عبر القضبان قبضت المرأة على ذراعي، وأظافرها نبتت في لحمي فأجفلت ألماً.

أمسكت أصابعها ونظرت اليها، ورأيت تشنج ألم وخوف وحزن يعبر قسمات وجهها. راقبتْ الصبي وهو يتسلق الرصيف الآخر، ولم تخفف مسكتها لذراعي إلا حين اختفى في الحشد، وابتسمت إلي مطمئنة، وأمسكت يدي مرة أخرى، ولكن أصابعها ارتجفت على أصابعي. قلت -" كان بخير" شاعرا بأنها هي التي بحاجة الى طمأنة.

ابتسمت ممتنة لي وضغطت يدي. مشينا سويا في الصمت الى أن وصلنا الى المكان الذي تركت فيه حقيبتي. ظهر أحد زملائي في المدرسة، اسمه ساتيش وبعمري تقريبا، مع أمه. صاح -" هلو، آرون! القطار يأتي متأخرا كالعادة. هل علمت بأن لنا مديرا جديدا هذه السنة؟".

تصافحنا ثم التفت هو الى أمه وقال -" هذا هو آرون يا أمي. إنه أحد أصدقائي وأحسن لاعب بولنغ في الصف".

قالت أمه الكبيرة المهيمنة وترتدي نظارات -" أنا سعيدة بمعرفتي ذلك". نظرت الى المرأة التي تمسك بيدي وأضافت -" وأفترض أنك أم آرون؟". فتحت فمي لأوضح، ولكن قبل أن أستطيع أن أقول شيئا ردت المرأة -" أجل، أنا أم آرون".

لم أكن قادرا على قول كلمة. رفعت رأسي ناظرا الى المرأة بسرعة، ولكن لم يبد عليها أبدا بأنها مرتبكة وكانت تبتسم لأم ساتيش. قالت أم ساتيش -" إنه شيء غاية في الازعاج انتظار القطار منتصف الليل. لكننا لا يمكن أن نترك الطفل ينتظر هنا وحده.

يمكن أن يحدث أي شيء لصبي في محطة كبيرة كهذه إذ يوجد الكثير من الأشخاص المريبين يتسكعون في الأنحاء. يجب على المرء أن يكون هذه الأيام حذرا من الغرباء".

قالت المرأة الواقفة الى جانبي -" يستطيع آرون أن يسافر لوحده"، وعلى نحو ما شعرت بالشكر لها لقولها ذاك، وقد سامحتها على كذبها، كما أني شعرت بالنفور الغريزي من أم ساتيش التي قالت وهي تنظر إلي عابسة من خلال نظاراتها -" حسن، كن حذرا يا آرون. كن حذرا حين لا تكون أمك معك، ولا تكلم الغرباء أبدا!".

حولت نظري من أم ساتيش الى المرأة التي أعطتني شايا وحلوى ثم أعدت النظر الى أم ساتيش. قلت -" أحب الغرباء".

صدمت أم ساتيش قليلا دون ريب وهي التي لم تعتد أن يعارض كلامها صبي صغير. قالت وهي تهز اصبعا صغيرا سمينا نحوي -" ها أنت ترين، خذيها مني! إن لم تراقبيهم طوال الوقت سيقعون في مشكلة رأسا. استمع دائما لما تقوله أمك، ولا تكلم الغرباء أبداً أبداً". حدقت فيها بامتعاض وتحركت أقرب الى المرأة التي صادقتني. كان ساتيش واقفا خلف أمه، يكشر لي، ومبتهجا لتعارضي مع والدته، مظهرا وقوفه معي.

قُرع جرس المحطة، والناس الذين كانوا حتى الآن يجثمون باستسلام على الرصيف أخذوا ينشطون. صاح ساتيش -" هاهو قادم"، فيما أطلقت القاطرة صافرتها وتلاعبت الأضواء الأمامية على خطوط السكك. تحرك القطار ببطء داخلا المحطة، والقاطرة تهسهس وتطلق موجات من البخار. ما أن توقفت حتى قفز ساتيش صاعدا درجات العربة المضاءة وصاح –" هيا يا آرون، هذه العربة فارغة!"، فالتقطت حقيبة سفري واندفعت نحو الباب المفتوح.

اتخذنا مجلسنا عند نافذتين مفتوحتين فيما وقفت المرأتان خارجا على الرصيف تتحدثان الينا، وكانت أم ساتيش هي المتحدثة أكثر. قالت –" احذرا أن تقفزا من القطارات المتحركة كما فعلتما الآن، ولا تبرزا رأسيكما من النوافذ، ولا تأكلا أي طعام سيء في الطريق". سمحت لي أن أكون مشمولا بفائدة نصيحتها، وهي لا ترى في "أمي" شخصية مقتدرة.

ناولت ساتيش حقيبة فواكه، وعصا كريكت، وعلبة حلوى كبيرة، وأخبرته أن يتقاسم الطعام معي، ثم تراجعت عن النافذة لتراقب "أمي" كيف تتصرف.

كنت متألما من اللهجة المتفضلة لأم ساتيش التي عبرت بوضوح عن اعتبارها عائلتي فقيرة جدا، وأنا لم أنو ترك المرأة الأخرى وسمحت لها بأن تتناول يدي بيديها، غير أنه لم يخطر على بالي قول شيء.

كنت مدركا أن أم ساتيش تنظر الينا بعينين قاسيتين، ووجدت نفسي كارها لها كرها مبالغا. سار الحارس على طول الرصيف نافخا صفارته لكي يغادر القطار. نظرت مباشرة في عيني المرأة الممسكة بيدي، وابتسمت لي ابتسامة لطيفة. انحنيت عندها خارج النافذة ووضعت شفتي على خدها وقبلتها. اهتزت العربة متقدمة وسحبت يدها. قال ساتيش –" وداعا يا أمي!" فيما بدأ القطار يتحرك ببطء خارج المحطة. لوح ساتيش وأمه لبعضهما البعض. قلت للمرأة الأخرى –"وداعا، وداعا.... يا أماه...". لم ألوح أو أصيح بل جلست ساكنا أمام النافذة، أحدق بالمرأة على الرصيف.

كانت أم ساتيش تتحدث اليها، ولكن لم يبد عليها أنها تصغي. كانت تنظر الي والقطار يأخذني بعيدا. وقفت هناك على الرصيف المزدحم، امرأة لطيفة شاحبة، ظللت أراقبها الى أن ضاعت في الحشد الموار.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* رَسْكين بوند (مواليد 1934) مؤلف ومترجم هندي من أصل بريطاني وهو مصنف مختارات أدبية كثيرة من بينها هذه التي تضم قصصا لكتاب عالميين عن السكك وقد اخترنا منها قصته هذه. من أعماله (الغرفة فوق السقف)1956 و(تحليق حمام) 1978 . كتب حوالي 500 قصة ورواية ومقال. كتب كثيرا عن الأطفال ولهم. تعكس قصصه ورواياته الحياة في هملايا والطبيعة والحب والفقدان كما تعكس الحياة اليومية.         

عرض مقالات: