اخر الاخبار

1- لوحظ في الفترة الأخير اهتمام رسمي بمفهوم "المحتوى الهابط" وأصدرت بعض أجهزة الدولة بما فيها مجلس القضاء الأعلى توجيهاً الى محاكم التحقيق بتشديد الإجراءات ضد مرتكبي "المحتوى الهابط" وعلى وفق ما ورد في توضيح مجلس القضاء الأعلى الذي نشر في الموقع الالكتروني الرسمي للمجلس وجاء فيه ( وجّه مجلس القضاء الأعلى محاكم التحقيق بالتنسيق مع الجهات المختصة لمتابعة صُنّاع المحتوى الهابط، واتخاذ الإجراءات القانونية المشددة بحقهم، حفاظًا على الذوق العام. ويأتي ذلك في ظل تزايد حالات نشر المحتوى الهابط عبر مواقع التواصل الاجتماعي)كما وجد تصريح رسمي في موقع مجلس القضاء الأعلى لإحدى القاضيات الفاضلات توضح فيه أسباب ما يقوم به القضاء من ملاحقة أصحاب هذا المحتوى الهابط وعلى وفق قولها (ذهب القضاء الى معاقبة المتطرفين في الأفكار وأصحاب المحتوى الهابط على مواقع التواصل الاجتماعي من خلال ما ينشره هؤلاء من سلوكيات مخالفة لعادات المجتمع وتقاليده وذلك للحد من تلك الظاهرة وصولا الى عدم المساس بحريات وحقوق الآخرين, ومن هنا تظهر تلك الأهمية من خلال محاسبة المسؤولين عن نشر المحتوى الضار الذي يهدد السلم الاجتماعي او ينتهك كرامة الأفراد)ويستخلص من كل ما تقدم ان الأسباب التي أدت الى تفعيل محاسبة هؤلاء هو الحفاظ على السلم الاجتماعي وحماية الاسرة والمجتمع العراقي والحفاظ على الذوق العام،

2- لذلك لابد وان تكون المعالجة بجانبها القضائي معالجة محايدة مجردة من أي دوافع وأسباب خارج نطاق القانون، لان مهمة القضاء تطبيق القانون، وعلى وجه الخصوص في القانون الجنائي، حيث لا يمكن معاقبة أي شخص ما لم يكن هناك نص يجرم الفعل ويحدد له عقوبة على وفق ما ورد في المادة (19/ثانياً) من الدستور العراقي التي جاء فيها (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص. ولا عقوبة إلا على الفعل الذي يعده القانون وقت اقترافه جريمة، ولا يجوز تطبيق عقوبة اشد من العقوبة النافذة وقت ارتكاب الجريمة) وكذلك ما ورد في المادة (1) من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 المعدل،

3- ومن العرض أعلاه هل توجد جريمة عنوانها المحتوى الهابط؟ الجواب بالمطلق كلا، لا يوجد نص في المنظومة التشريعية العراقية يجرم فعل عنوانه (محتوى هابط)، لكن هذا العنوان تداولته وسائل الاعلام، كما تداولته الخطابات الرسمية التي صدرت عن مجلس القضاء الأعلى وكذلك وزارة الداخلية، وهو عنوان اعلامي وليس قانوني، ولا يشكل فعلا يجرمه القانون، وما يثبت هذا القول ان اغلب الذين احيلوا الى القضاء واتخذت بحقهم الإجراءات القانونية كانت استناداً الى احكام المادة (404) من قانون العقوبات التي جاء فيها (يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة او بغرامة لا تزيد على مائة دينار كل من جهر باغان او اقوال فاحشة او مخلة بالحياء بنفسه او بواسطة جهاز الي وكان ذلك في محل عام.) ومن شروط ارتكاب هذا الفعل ان يكون القول جهرا وان يكون مخل بالحياء العام.

4- لكن معيار تحديد مقدار الاخلال بالحياء العام غير محدد ويخضع لسلطة المحكمة التقديرية، وهذه تعتمد على عدة عوامل أولها مقدار ما تتمتع به المحكمة من معرفة بالقواعد الأخلاقية السائدة في المجتمع، كما تخضع لقيم القضاة الشخصية ويقول احد الباحثين الدكتور هشام محمد فوزي في كتابه الموسوم (رقابة دستورية القوانين دراسة مقارنة بين امريكا ومصر، وتم طبعه ونشره عام 1999) ان قيم القضاة الشخصية هي الأساس في تحديد الحكم الذي تصدره المحكمة، ومعنى القيم الشخصية هو إمكانيات القضاة الشخصية سواء العلمية او المهنية ومقدار الالتزام بالحياد والاستقامة والقدرة على الاستنباط، وهذا يعني ان القاضي يعتمد على اجتهاده وما يراه دون الالتفات الى أي جهة سواء كانت طرف في الخصومة وخارجها وانه يعبر عن قيمه وقناعاته ولا يلتفت الى السياسة واتجاهاتها ويبتعد عنها قدر الإمكان حتى لا يتلوث بها، لان عالم السياسة بمثابة السيرك بينما القضاء هو محراب القداسة، على وفق قول احد قضاة المحكمة العليا في أمريكا (هارولد بيرتون) عندما تم تعيينه في المحكمة العليا بعدما كان عضوا في الكونغرس الأمريكي، حيث قال عند جوابه لسؤال وجه اليه ما هو شعورك عندما انتقلت من العمل في الكونغرس الى العمل في المحكمة العليا فأجاب (انه نفس الإحساس الذي يشعر به المرء لما ينتقل من السيرك الى الدير)، نقلاً عن الدكتور هشام محمد فوزي في كتابه أعلاه (ص263)، لذلك فان المحتوى الهابط هو عنوان اعلامي وليس مفهوم قانوني، اما مضمون المحتوى فانه يخضع للتجريم على وفق احكام قانون العقوبات النافذة،

5- لكن هل ما جرى كان يقف عند الفعل الفاضح او المخل بالحياء العام؟

للإجابة على هذا السؤال لابد من ملاحظة بعض الأمور والتحقق منها وعلى وفق الاتي (1-الفترة التي ظهر فيها إتمام الجهات الرسمية 2- الأشخاص المستهدفين بالملاحقة وموقعهم الاجتماع 3- ومقدار مساس قولهم ببعض الشخصيات الرسمية 4- وماهية العقوبات التي صدرت بحقهم وهل تساوت بين الفعل المخل بالاداب العامة وبين الذي فيه مساس بالشخصيات الرسمية 5- هل أسهمت تلك الإجراءات بالحد من ذلك ام انها ما زالت على ذات الوتيرة التي ظهرت بها)ولابد من الوقوف على الأسباب وهل تشكل ظاهرة اجتماعية، حيث لوحظ ان اغلب الأفعال التي تنسب الى مرتكبي الفعل الفاضح او الاخلال بالآداب العامة كانوا هؤلاء على صلة ببعض الشخصيات العامة، والبعض الاخر حاول ان يعبر عن سوء الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية بطريقة ساخرة، يهدف من خلالها الى لفت الأنظار الى ما يحصل في المجتمع، حيث يعتبر المختصون بصناعة الرأي العام ان السخرية سواء بالكلام ومن مفرداته (النكات) او بالإشارة او التعبير الجسدي تعد واحدة من عناوين النقد والرفض للحالات السلبية في المجتمع،  ويشير الدكتور عمر محمد الطالب في كتابه الموسوم (اثر البيئة في الحكاية الشعبية العراقية، منشورات دار الجاحظ للنشر عام 1981) حيث يقول ان المجتمعات تلجأ الى أسلوب السخرية عبر خلق الروايات على لسان حيوانات وهمية وتنسب اليها اقبح الصفات تعبيرا عن رفضهم لطغيان المستبد والطاغية وهذا يوضح وجود خيط رفيع بين حرية التعبير عن الرأي وبين تكييف التصرف او القول على انه مخل بالآداب العامة ويعد من عناوين المحتوى الهابط، مع التنويه الى ان اغلب الذين صدرت بحقهم احكام اما من الطبقات الفقيرة المسحوقة، او من بعض الفتيات اللواتي يعمل في مجال الاغواء والملاهي، لكن لوحظ أيضا امتداد هذا العنوان ليطال بعض الأشخاص ممن كان لهم موقف من بعض الاحداث او من بعض الأشخاص من ذوي الشوكة والنفوذ، ويبقى الامل قائم ويعتمد على قدرة قضاتنا الافاضل بالتمييز بين هذين الاتجاهين، وان يكونوا على قدر ثقة الناس بالقضاء في ان يكون الحامي للحريات من تغول السلطات وأصحاب النفوذ، ونصيرا وداعماً للفقراء والمعوزين وأصحاب الرأي والفكر النقدي للأوضاع الراهنة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

*قاض متقاعد

عرض مقالات: