اخر الاخبار

من الانعطافات الطريفة في بعض نتاجات الإبداع الأدبي المعاصر (سيميائيةُ العنوان) وتماهيها دلاليا مع المضمون لتشكّل إيقونة تدل على عمق الصورة الأدبية وقصدية التعبير الفني اللذين يوصلان إلى تناغم غائر في المفهوم يتجلّى بأشكال متوافقة حسب ما يقتضيه فحوى النص ليحسم للمتلقي الصراع اللفظي القائم، فيسير في قراءاته بخطى واثقة وهو يصحب في ذهنه هذه السيميائية.

وفي المجموعة الشعرية (تُغيّر الأسماكُ رأيَها على اليابسة) لحسين المخزومي جاء كل عنوان إشارة سيمائية شكلت مع نصها تكاملا دلاليًّا يشي بحنكة الاختيار الذي يوصل إلى التماهي المقصود مع النص:

 "الفراغ ..

يشعر بالوحدة

حين يملأه الناس"

حيث الارتباط بين العلامة واللفظ الصريح، وصولاً الى مساحة دلالية واسعة تعطيه أفقًا رحبًا في إنتاج دلالات جميلة تدور في فلك تماهي الإشارة مع النص والأفق الدلالي الواسع الذي يرتبط ارتباطًا عضويًا مع النص، ولا يمكن الاستغناء عنه في رسم الصورة الدلالية الكاملة لفهم فحوى النص. عنوان المجموعة جملة فعلية، وبالنظرة اللسانية التجريدية لبيان تأليفها نجدها تتألف من (فعل مضارع + فاعل + مفعول به + شبه جملة)، وهو تركيب يتمثل بالرتابة المعيارية لتأليف الجملة العربية الفعلية، فلا تقديم ولا تأخير ولا حذف ولا تقدير، وهذه المظاهر من مناورات البيان العربي في التركيب، إذن هو تأليف طبيعي، فهل هذه الرتابة دلّتْ على إبداع مقصود؟، أقول: نعم؛ لأننا لو غيّرنا في ترتيب هذا التركيب لأعطى لنا معاني لا تنطبق تمامًا على المعنى المقصود في الترتيب الاعتيادي الأول، ولو قدّمنا المفعول به – مثلا  -(تُغيّر رأيَها الأسماكُ على اليابسة) لكان تقديمه يدل على خصوصية التغيير. إنّ المرسل استعمل لفظ (تُغيّر)، وهو فعل مضارع مرفوع، يمثل صدر الجملة الفعلية، واستعمال الفعل في الدلالة اللغوية العربية يدل على الحدوث والتجدّد، بمعنى أنّ هذا الحدث (التغيير) مستمر في (الأسماك)، ومتجدّد بحسب معطيات محيطها، لاسيما أنّ الفعل المضارع له دلالة على استمرارية الحدث، وهذا يعطي إشارة إلى ما تمتلكه هذه (الأسماك) من الحرية في التغيير. إنّ دلالة صيغة الفعل، وهي صيغة (تفعّل) تدل على أنّ التغيير ليس من الخارج، أي: ليس بأمر أحد، وإنّما نابع من قناعة داخلية لدى (الأسماك) تتطلب التغيير بما يتلاءم مع محيطها، فقامتْ بالمعالجة، وهذا يضمن لها الديمومة التي ترتبط بوضعها الجديد، فهذا التوظيف اللفظي للفعل المضارع يُبين ضرورته المقصودة في الاستعمال موازنة بأي تركيب لغوي آخر، وهنا نستأنس بأحد أركان النظرية البنيوية، وهو الاستبدال العمودي أو الأفقي في تحليل الألفاظ من أجل الوقوف عن كثب على قصدية التركيب وأهميته في بيان المراد. (الأسماكُ يتغيرُ رأيها على اليابسة) أو (تغيير رأي الأسماك على اليابسة) أو (الأسماكُ متغير رأيها على اليابسة) ... إلخ، فكل هذه الجمل لا تعطي المعنى الذي أعطته الجملة المستعملة، ولعل أهم اختلاف أنّ هذه الجمل تجعل التغيير ليس من داخل (الأسماك)، إنما هو مفروض عليها، وبهذا تفقد (الأسماك) حريتها في الاختيار، وتصبح تابعًا، فتبرد الصورة المنتزعة، وتبتعد عن الفهم الفلسفي للإبداع. ان استعمال المرسل للفظ (الأسماك)، اسم معرفة، بنيته الصرفية جمع تكسير على وزن (أفعال)، ولو استعملنا نظام الاستبدال لكان باستطاعته أنْ يقول: (يُغيّر السمك)، فما الفرق بينهما؟، والإجابة أنّ (أسماك) جمع تكسير يدل على القلة، و(سمك) اسم جنس جمعي، وإرادة الجنس تدل على الكثرة، ولا شك أنّه ليس كل (الأسماك) تمتلك القوة الكامنة في تغيير رأيها على اليابسة، وهي في هذا كبني البشر يتفاوتون في كوامنهم. أمّا اختيار لفظ (رأي) وإضافته إلى (الأسماك) ففيه بعدٌ مهم، إذ إنّ جعْل (الأسماك) تمتلك رأيًا يدل على وعي وقرار، فهذه الأسماك ليستْ أسماكًا اعتيادية، وإنما هي أسماك ذات إرادة عقلية تميز بها موجوبات الضرورة في التغيير حسب مستجدات محيطها.  بقيتْ لدينا شبه الجملة (على اليابسة)، وفيها يتمثل التقييد بالمتعلق النحوي بجماله المعنوي الذي فتح الباب على مصراعيه في نضج الصورة الأدبية، ولاسيّما أنه استعمل حرف الجر (على) الذي يشي بديمومة حالها الفوقية موزانة لو أنه استعمل حرف الجر (في)؛ لأنه يحتمل أنّ (الأسماك) صارتْ على غير حالها، فدخلتْ في اليابسة، وليس فوقها، وشتان بين الصورتين. ان جملة العنوان (تُغيّر الأسماكُ رأيَها على اليابسة)، فنجد في جزئها الأول إحساس الرطوبة، وفي جزئها الأخير نجد إحساس الجفاف، وهذا التضاد مهم في التماهي مع نصوص المجموعة التي اكتنزتْ أفكارًا متنوعة من الدلالات تفاوتت في قربها من أصول فهم الدلالة اللفظية في (الاقتضاء والتضمن واللزوم)، حتى تصل في بعض الأحيان إلى التنافر، ليهز العقل بتصوره، فتنبلج أمامه الصورة الفنية بأبهى أشكالها، فتعطي البعد الفلسفي الذي يهيء المتلقي إلى نصوص المجموعة؛ ليرتقي بإداركه، فيرتشف من رحيق المعاني ما يدخله في حلبة الصراع الفكري القائم على فهم حقيقة الحياة ومتطلبتها بما يخلق جواً من المواءمة مع الخيال الناضج، وبهذا نتلمس الإبداع.

ــــــــــــــــــــــــــــ

* رئيس قسم اللغة العربية – جامعة الفلوجة

عرض مقالات: