تمثل معالم الأمكنة المواقع العامة المباشرة في دراسة الأسس النفسية لبعث المحفزات القائمة على الشعور بالحنين ( الناستالوجيا) وذلك لارتباطها بالتجارب الإنسانية السابقة بالنسبة للفرد، وعلاقتها بالذاكرة، والأشياء التي تحدث فيها، فتكتسب تلك الأمكنة آثاراً قوية في قدرة الذاكرة على استعادتها، كلما حانت الفرصة في زيارة تلك الأمكنة، أو ما يماثلها، أو ما يساويها، أوما يقاربها، بل إن الشعور بالحنين يمكنه أن يعاود الظهور مرة بقوة ، أو تارة برقة، حالما تتطابق التجارب التي عاشها المرء سابقاً، وتصادفت تلك التجارب مع تجارب لا تنتمي لشكل أو لمحتوى التجارب السابقة إلا في القليل من الخيوط الجامعة للتجارب، عما لهذا الشعور من القدرة على صنع الحنين وعلى ما يبدو ثمة علاقة ما بين الذهن والذاكرة التي تختزن التجارب التي يمر بها الفرد، ويمكن أن تكون الذاكرة هي المظهر الأساسي في شحذ الذهن، كي يجعل من التجارب التي يمر بها الفرد تجارب قابلة للخزن أو الفرح أو غيرهما من المحفزات، وبمقدور الذهن تلببة حاجة الذاكرة في الاستعادة، وهذه الاستعادة التي تشبه الحنين، ذاك الشعور الذي يمكننا تصوره على إنه القدرة على إعادة الماضي بواسطة الذاكرة التي يخترعها الذهن عبر تراكم الحوادث والتجارب، بشرط توفر عنصري المكان والزمان، اللذين سنجدهما لا يعنيان بالحدود البيئية المنظورة للأشياء، بالنسبة للأمكنة إذ سيكون ثمة تفاعل من نوع خاص يعضد ذلك الشعور بالناستالوجيا، وهو الفضاء أو الفراغ الصامت غير المحسوس الذي لم يدركه الإنسان سابقاً، ولم يجد له الباحثون تفسيراً، حتى برز الاهتمام باللغة وثورتها الألسنية، ووضعت اللسانيات مشروعها في تطور وظائف الاتصال في اللغة التي هي في الأساس قائمة على التبليغ، مما عزز في فهمنا للأسس النفسية في التعامل مع الأمكنة على إنها قبل كل شيء هي تصور باطني ترتكز على العامل الذاتي في اللغة الذي يترجمها اللسان وأقسامه الثلاثة (اللسان اللغوي واللسان الإشاري واللسان البروكسيمي) علماً إن اللسان الثاني والثالث هما غير لغويين، والتي تثري في اتساع رقعة الشعور الباطني بالحنين، وكان يساهم في زيادة دفق الحنين في لحظات التماس غير المباشر بالأمكنة،ما يطلق عليه البروكسيميا، أو (علم المكان) ويعرف من كونه علماً يهتم بدراسة المكان، أو استعمال الفضاء لأهداف تبليغية واشتهر إدورد هال ومن بعده بعض الباحثين، في دراسته، والبروكسيميا على هذا الفهم يدرس الشفرات المكانية، المساحات والمظاهر أو الأدلة غير اللغوية، وفي بعدها اللاشعوري، أي إنها تدرس المظهر اللاإرادي للتواصل (شاتون وويفر) والكثير من الباحثين في هذا المجال من السلوك البروكسيمي، لكن الشعور بالحنين للأشياء الماضية تأتي في هيئة (الأمكنة) في الأسس النفسية التي تبينها الذاكرة التي تمتلك وحدها إمكانية رسم معالم الناستالوجيا، دون تخطي أو عزل النظام البروكسيمي، فالمحفزات الناستالوجية تتأثر بالمساحات غير اللغوية بما تسمى (دوائر القرب) وتخزنها الذاكرة اللاإرادية حول تضاريس عنصري المكان والزمان، لنجد إن تلك الذاكرة في لحظات التماس مع خريطة الأمكنة تقع في حبائل التجربة النفسية، الذات المتحفزة التي تحتفظ بسلسلة من القصص( قصص الحياة بتعبير بول ريكور ) الأنفعالات القائمة على صدمة التجربة وشدتها عمقاً أو امتداداً مع التجربة التي تتحول إلى صورة سردية تحمل الأسس النفسية من المفتقد زمنياً والمستعاد مكانياً، كأنما هي عبارة عن محكيات من الرواية الأسرية في تعبير فرويد التي تشكل عمود السيرة الذاتية للفرد، وتجري عليها عملية التحويل في بتية اللغة اللاشعورية، كي تمثل شخوصاً في الذاكرة، فالمحفزات للحنين تتأثر بنوع من العودة إلى ما يشبه الرواية الأسرية المصغرة التي تضاهي البناء النفسي العصابي، التي تعتبر عملية التذكر قبالة الأمكنة استيحاء فجائي مستلة من الرواية الأسرية ، تبدأ بالصدمة، ثم التداعي، وبعدها التفاعل فالاستغراق في المكان والفضاء المحيط به، حيث إن فرويد بين في اطروحته حول الرواية الأسرية إن لكل فرد رواية يختلقها للعيش في سعادة ذاتية والتحويل هنا يحدث في البنية اللاشعورية للغة التي تعمل على الاستذكار، أي أن يتحول الماضي الزماني إلى حاضر مكاني في اللاشعور، من أجل أن يصنع بانوراما استذكارية، ولعل الأسس النفسية لمحفزات الناستالوجيا بالنسبة للفرد، عندما يواجه الأمكنة، تختلف عن سياسة الحنين التي ترتبط بدائرة أوسع، تضم مفاهيم أعمق كالأمة والذاكرة والتقاليد الخ وإن كان الاختلاف يذهب إلى طبيعة تعامل الفرد مع المكان، منطلقاً من أساس الحنين النفسي الذي يجتاح الحواس أولاً، ثم يعقبه الانقلاب النفسي في حدود الفضاءات، وتتم حسب (هال) معالجة الفضاءات والعلامات الفضائية التي تعرف في مظاهرها التقنية والشكلية، وتتطلب تحليلاً سيميائياً للبعد العميق والبعد الخفي فالمحفزات الناستالوجية في الأمكنة لا تكتفي في عملية الاستعادة بالذاكرة، مادام هناك استعصاء يعيق تلك العملية، فيجب الاستعانة بالفضاءات التي تحفز وعي الفرد بملاقحة النظام البروكسيمي الرابط بين قدرة الفرد في تصور الأمكنة أثناء التماس معها والمنحى السيميائي الذي يعزز احساس الفرد بفضائية المكان، لهذا فالأسس النفسية التي تعطينا المزاج على استعادة الأمكنة ترتبط بذواتنا، واستعداداتنا في الاستعادة اللينة، بمساعدة الذاكرة، وفسح المجال للتعامل مع الفضاءات على إنها دوائر قرب من مركزية المكان.

عرض مقالات: