ان تأثير إِعلان الحرب العالمية الثانية، ومارافق تلك الحرب من أحداث داخلية الاثر الاكبر في الحياة العامة في المجتمع العراقي،  فقد زادت هذه الحرب من حدة الوعي السياسي بين أفراد المجتمع، فإِنصرف العديد من الكُتاب الى كتابة الدراسات والبحوث السياسية والاجتماعية التي تتصل بنضال الشعوب من أجل تحرير بلدانهم من السيطرة الاجنبية المباشرة وتقويض دعائم الاستغلال، وتحقيق العدالة الاجتماعية. واستمرار تأثير كُتاب الادب الروسي شيخوف ودستوفيسكي وغوركي، فأن حركة الترجمة الواسعة في سوريا ولبنان في بداية الخمسينيات قادت المثقف العراقي الى الاطلاع على عيون الفكر العالمي التي اصدرتها دار اليقظة العربية في دمشق و(سلسلة كنوز القصص العالمية) التي ترجمها (منير البعلبكي)، ومجموعات القصص والروايات التي اصدرتها دار الآداب والتي أشرف عليها (سهيل إِدريس) وأن انحصر جل إِهتمام هذه الدار في مؤلفات كتاب المدرسة الوجودية في فرنسا (سارتر، وكامو، وسيمون دي بوفوار) فضلاً عن الاطلاع على النتاج المصري المتمثل في كتابات (توفيق الحكيم، وطه حسين، وعبد القادر المازني ومحمود تيمور، ومحمود أمين العالم). وتعالت الاصوات المطالبة بأهمية توحيد الشكل والمضمون في الادب الاجتماعي وفي هذا الصدد يقول الروائي غائب طعمة فرمان “أن النفس البشرية لايمكن أن تتخيل وهي لاتنعم بواقع الحياة. .. فالأديب كلما كان أكثر تجربة وممارسة للحياة واتصالا بالواقع كلما كان اوسع افقا واعذب خيالا واطرب نغما “و يجد فرمان أن “نظرية الادب الماركسي غير واضحة المعالم في أذهاننا ولكن تعلمنا من القراءات الفكرية العامة، ومن مطالعة (غوركي) أن على الاديب أن يعبر عن الشعب. “لقد عززت دعوة (جان بول سارتر) ضمن الأدب الملتزم ما دعا اليه الشيوعيون  بأن الادب الواقعي والادب الملتزم ليس وقفا على الشيوعيين. أو ما  يسميه البعض (إلزاما)،  و يدخل ضمن الالتزام الحزبي ، وقد اتضح هذا الالتزام في القضية الاجتماعية في الادب (الفن للمجتمع أو الحياة) في الشعر والقصة والمقالة . أن  دعوة الالتزام ضمن(الفن للحياة أو للمجتمع)، لم تقابل باستحسان من قبل كُتاب اخرين فقد وجدوا فيها تقييدا لحرية الابداع عند الادباء، وتضييق حرية الاديب، ويوســـع الطريق امام الكُتاب المتملقين الذين يلتزمون النفاق بدل الصدق في نتاجاتهم. فهم يجعلون هذا النتاج وسيلة لعرض وجهة نظر سياسية. فالشاعر (بلند الحيدري)  يرى فكرة الالتزام في أن  “الشاعر مطلق من اي قيد سياسي، ولذا فانه لايتبع فكرا سياسيا معينا في ادبه ولا يريد أن ينقل مبادىء ذلك الفكر الى الادب. وأن الادب نتاج العواطف الخاصة ولايمكن أن يكون مبدعا إِذا اراد الخروج عليها.”   فقد مثل رأي بلند الحيدري الكُتاب من معتنقي دعوة (الفن للفن) بعد الحرب العالمية الثانية، الذين يؤمنون بأن على الفن ألا يخرج عن ذات الانسان ويصير عبدا للسياسة. وان كانت هذه الدعوة متأثرة بما ذهب اليه  الروائيان الفرنسيان (زولا) و(بلزاك) وغيرهما من الذين وصفوا المجتمع بأعينهم المجردة مستعينين بمواهبهم فقط في تصوير المجتمع دون التفسير الغامض والمضطرب في قضايا المجتمع المختلفة. وفي الواقع وعلى الرغم من خلق نوع من التمييز بين هذه الدعوات إِلّا أن هناك حقيقة هي أن معظم الكتابات في العراق قد اتجهت اتجاها اجتماعيا من خلال تصوير واقع التخلف في المجتمع وتناول الطبقات المسحوقة، وما تعانيه من بؤس واضطهاد ، ففي المجال القصصي استمرت القصة العراقية تعكس الاوضاع الاجتماعية، فقد برز جيل جديد بعد الحرب العالمية الثانية ينتج ادبا قصصيا يعبر بشكل اعمق عن شواغل مجتمع خلف وراءه مرحلة النهضة ليدخل في مرحلة وعي يتزايد مع الايام ويقف في مقدمتهم (عبد الملك نوري، ونزار سليم، وشاكر خصباك، وفؤاد التكرلي، وعبد الرزاق الشيخ، وخليل رشيد، وصلاح الدين الناهي، وغائب طعمة فرمان) أما في مجال الشعر فقد كان محمد مهدي الجواهري يمثل نموذجاً بارزاً وطاغيا بسبب أن شعره كان يمثل الشكل الاكثر تكاملاً للشعر التقليدي ولاستجابة شعره للظروف والشعارات السياسية ولموقفه الشخصي من الاحداث السياسية والفكرية وتبني القوى السياسية له.  كان الأطلاع على نماذج الشعر المترجم لـ(رمبو، وبودلير، واليوت، وايلور، ولوركا، ونيرودا، وناظم حكمت)، فقد أظهرت هذه النماذج للشعراء العراقيين الشباب المتطلع الى الجديد تأخر النماذج التقليدية والقيود الشكلية التي يعيشها الشعر التقليدي. ولم يكن البوح بارائهم شيئا سهلا، فهناك قناعات ترسخت قرونا عديدة من الصعوبة تغييرها وعلى الرغم من ذلك ولد الشعر الحر. يجد (يوسف الصائغ) أن تسمية الشعر الحر تأتي أهميتها  “لصفة الحر التي تضمنتها التسمية أثر في أنتشارها فقد كانت كلمة الحرية والتحرر في تلك الظروف وقعا في النفوس عبر أكثر من مجال وبخاصة في المجال السياسي والفكري والاجتماعي “، والتي تتلخص بحرية التعبير عن الذات، كما شكلت التجمعات  واللقاءات الادبية، التي عُقدت في الكثير من المقاهي المنتشرة في بغداد مثل مقهى (حسن عجمي) ومقهى (البلدية) ومقهى(الصباح) ومقهى (الرشيد) ومن ثم مقهى (البرازيلية) ومقهى (السويسرية)، مظهرا ً بارزا ًمن مظاهر الحياة الثقافية في بغداد في الاربعينيات والخمسينيات، فقد شهدت هذه المقاهي، وهي مقاهٍ عامة، الكثير من لقاءات المثقفين ومناقشاتهم الحامية وثرثراتهم، التي أسهمت الى حد كبير في انضاج العديد منهم وبلورة اتجاهاتهم الفنية والفكرية. وبهذا يمكن لمس تغيير فعلي في الاتجاهات الثقافية لفئات من المثقفين سئموا النماذج المتكررة والموضوعات المطروقة، يريد المثقف أن يستقل ويبدع لنفسه شيئا يستوحيه من حاجات العصر ولاسيما بعد الاطلاع على الاداب الغربية، فالشعراء الذين حملوا لواء التجديد بعد الحرب العالمية الثانية ممن درسوا الأدب الانكليزي  (السياب، ونازك الملائكة). لقد بدأ هؤلاء المثقفون يتطلعون الى عوالم مليئة بالثقافة والتجارب الجديدة،  وفي الواقع ما من انتاج أدبي أو فني في هذه المرحلة يخلو من محتوى فكري يعكس المؤثرات الفكرية التي شكلت رافدا ثقافيا مهما تفاعل معها المثقف، ونُشرت الدراسات الجريئة والبحوث الجادة التي كتبها باحثون عراقيون في نواح مختلفة في شؤون الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتاريخية واللغوية مثل كتابات (عبدالفتاح ابراهيم، وابراهيم كبة، وعلي الوردي، واحمد سوسة، وطه باقر،ومصطفى جواد) وغيرهم الكثير. في حين جمعت السياسة عددا من المثقفين الشباب منهم (بدر شاكر السياب، ورشيد ياسين، ومحمود البريكان، وأكرم الوتري، وعبدالرزاق عبد الواحد وكاظم جواد، وزهير أحمد القيسي، وكاظم التميمي، وسعدي يوسف). وجمعت الاتجاهات الفنية والوجودية بين(بلند الحيدري، وصفاء الحيدري، وحسين مردان، وجواد سليم) كما ضمت حلقة أخرى كلّاً من (فؤاد التكرلي، ونهاد التكرلي، وعبد الملك نوري، وعبد الوهاب البياتي، وشاكر حسن ال سعيد). فهناك انفتاح في أفق المثقف على التيارات السياسية واالفكرية العالمية، وعلى الرغم من ذلك ارتبط المثقف بالواقع العراقي بجميع أبعاده السياسية والإِقتصادية والاجتماعية، فكان من مهام المثقف محاولات الكشف عن المضامين الصراعية التي يمر بها الواقع المتخلف، فهناك ثورة فكرية حاول المثقف تجسيدها في مضامين الرواية والشعر والفن.ويعطينا غائب طعمة فرمان في روايته “خمسة أصوات” صورة لمثقف هذه المرحلة بين الروائي والصحفي والشاعر،تختلف في الاراء وتتفق في المواقف الكبرى فهناك وعي لحقيقة التعددية في الواقع الثقافي.

عرض مقالات: