بناء شاسع يمتد مطلا» على نهر دجلة  من زاوية حادة تدعى «المرسى»  حيث يمضي  النهر  في جريانه الخالد  نحو الجنوب تحيط بالقصر  من جهاتة الاربع اشجار النخيل و الحمضيات الكثه  فتضفي عليه شكلا»  اسطوريا»  مخيفا» يبدو لنا  نحن سكان المدينة  وأزقتها  واحيائها الشعبية  الموحلة في غاية الغموض  والرهبة  فضلا»  عن حارسه الخاص داكن البشرة  الذي تكسبه مخيلتنا شكلا» مرعبا» أخر  بتحذيرنا  من مجرد الدنو من سياجه الطيني  المرتفع  المنتهي في اعلاه  بقطع زجاجية حادة  لاتسمح للصوص أو المتطفلين  بتجاوز  جداره  المنيع . كنا مجرد صبية مدارس  لا ملاذ لنا  سوى  الانتشار  قريبا  من سياج  ذلك القصر لنذاكر دروسنا في الهواء الطلق  استعدادا» للامتحانات ،نطالع  ونحن نسير  فوق  السدة الترابية  المحاذية  لنهر دجلة وصولا»  الى قصر الخاتون، بيوتنا الصغيرة  لا تحتمل اعدادنا الغفيرة  فنلوذ   بالبرية، العشرات من  زملائنا واصدقائنا يهيمون فوق السدة وجوههم ملتصقة بالكتب  نهيم في العراء نحو سياج  قصر الخاتون  كمكان هاديء وكمكتبة عامة متاحة للجميع ، جدار القصر  الخارجي  سبورة للجميع،  لكننا كنا في الواقع نشعر بالخوف  من مجرد  الاقتراب  من ذلك  السياج  المرعب وحارسه العنيف الذي يطلق  من وراء  الجدار اصواتا» تحذيرية ليبعدنا عن الدنو  من حدود  مملكتة الغامضه، نحن نجهل كل شيء عن  سكان  ذلك القصر ، بل الامر لايعنينا فهم على اية حال من بيئة غير بيئتنا ، لذا لم  نكترث  كثيرا» بمن يسكن في قصر الخاتون  فهو لاشك من طبقة أرفع  منا كثيرا» لازلت  اسمع صدى صوت ذلك الحارس الأسمر الضخم وهو يطلق كلمات  غير مفهومة لكنني حتى الان  لا اعرف سبب عنف ذلك الحارس المتوحش وكراهيتة لنا . أنا لم اره في حياتي  لكن مخيلة أقراني رسمت له صورة اسطورية ، رجل ضخم هائل الحجم  خلاسي البشرة بـأمكانه سحق عشرة منا بضربة واحدة .طوله يمتد الى مترين غليظ الشفتين لو صفع احدنا مجرد صفعة  لأرسله الى الجحيم مباشرة ، هكذا كنت اتخيل حارس قصر الخاتون المرعب.

صمد القصر أكثر من مئتي عام ،بناه الضابط التركي عصمان باشا لزوجتة المدلله نزيرة خاتون  التي فرضت علية شرط  بناء قصر على النهر على غرار قصر والدها الباشا  في الاستانة .في البدء أنشأ مرسى للسفن امام البستان الذي اشتراه ليبني على ارضه في منتصفه  القصر الذي طلبته خطيبتة نزيرة،  وبعد اكتمال بناء المرسى وأصبح جاهزا»لأستقبال  السفن الشراعية  واللنجات  والاكلاك الناقلة لمواد البناء ، بدأت  السفن الشراعية  بنقل الطابوق الهرمزي من المدن الواقعة  على مشارف مضيق هرمز ،وجلبت سفن شراعية اخرى العاج  والصاج الهندي وأخشاب  البلوط الصيني واستورد الشبابيك والزجاج من الاستانه واستقدم من الهند الغزلان  وطيور الحب والأرانب وبنى لها حظائر داخل اسوار البستان الشاسع ، الذي اختار ارضه الأمير التركي عصمان باشا بعيدأ عدة أميال عن مركز المدينة فكان يبدو من بعيد وكأنه من قصور الف ليلة وليلة بناه الأمير عصمان باشا خارج المدينة كيما يزعج أحد زوجتة  المدلله سليلة الباشوات . استقدم من اصفهان خيرة البنائين والعمال فقد كان يريده تحفة معمارية يبهر بها زوجتة وتدوم لعدة قرون من بعده،استمر العمل فيه لعدة شهور ليل نهار حيث تم تقسيم العمل فيه الى وجبات تتناوب الانجاز الفني بشكل كامل حتى انجز العمل في زمن قياسي قصير ،قدمت العروس في موكب هائل باذخ  من الاستانه الى العراق وحال وصولها هي ووصيفاتها الى القصر بدأت الاحتفالات التي دامت اسبوعا» كاملا» نحرت خلاله مئات المواشي  وقيمت عشرات الولائم للقادمين من شيوخ القبائل والفلاحين القاطنين على امتداد نهر دجلة والذين  قدموا الهدايا والتهاني  للأمير  العثماني عصمان باشا لكسب وده والتقرب اليه.بقى القصر لعدة اعوام مغلفا» بالغموض  بالنسبة لسكان المدينة البسطاء لاعوام طوال ، ليست لديهم فكرة عن قاطنيه، كم عددهم ،مالونهم،ذكورا» أم اناثا»، فقد حملت قافلة نزيرة خاتون معها عدد من العبيد والخدم والجواري والحراس ممن كانوا يعيشون معها في قصر والدها الباشا من سكان مسقط رأسها الاستانه وهم يشكلون حاشيتها الخاصة . سكن الجميع داخل اسوار ذلك القصر ذي الاشجار الكثة يلفهم الغموض وتحيط بهم اسرارهم لايعلم احد كم عددهم وماذا يفعلون وكيف يقضون اوقات فراغهم بأستثناء بعض الاخبار الغامضة عن رحلات ليلية بالزوارق في عرض نهر دجلة ،اخبار غير مؤكدة ينقلها لنا بعض سكان القرى القريبة من القصر ، اشاعوا بأنهم كانوا يرون اضواء فوانيس تنزل بأتجاة مرسى السفن نساء ورجال يذهبون  في رحلة نهرية كل ليلة من ليالي الصيف على قوارب صيد صغيرة وعلى شكل مجاميع منتظمة .تسربت  من ذلك القصر بعض  الحكايات الغريبة  ولاندري كيف انطلقت من ذلك  المكان الغامض المجهول  المحاط بالاسرار، حكايات توارثها سكان المدينة  فيما بعد وكأنها  جزء من تراث وتاريخ مدينتهم الصغيرة . خلال اعوام من اقامة نزيرة خاتون  في مقرها انجبت  ثلاثة اولاد وفي اثناء حالات الحمل والطلق والولادة ، كان الباشا عصمان  يقضي وطره مع جارية شركسية جميلة اتخذها لنفسه كمحظية خاصة ، لكن الأمر لم يمر بسلام فقد اكتشفت نزيرة  خاتون خيانة زوجها الأمير عصمان مع جاريتها الشركسية فعمدت من فورها الى تكليف احد عبيدها المخلصين بقتل تلك الفتاة  والقاء جثتها في النهر،  لم يتعد الخبر  حدود قصر الخاتون  أنذاك  فقد تم كتمان  الأمر ولم يسمح لأحد بتسريب الخبر لأن ذلك من شأنه تحطيم سمعة  الأمير عصمان باشا  ومستقبلة المهني  وحرمانه من كل امتيازات  المنصب واستمرت الحياة  في قصر الخاتون  على نحو رتيب وغامض ومغلف بالاسرار التي تتسلل احيانا» خلسة بين شقوق القصر فلم تمض مدة  حتى بزغت ضحية اخرى تتناقلها الألسن بشكل مريب فقد اكتشف سكان احدى القرى   لنهر دجلة جثة فتاة اخرى من فتيات قصر الخاتون  كما هو واضح من معالم ملابسها وما ترتدية من حلي ميزتها عن بقية  فتيات القرى المحيطة  بقصر الخاتون  وتم ايضا»التعتيم عن الأمر ونكران صلة الفتاة بالقصر. اكتسب القصر منذ ذالك الوقت سمة الغموض والرهبة حتى ان سكان القرى الذاهبين الى المدينة للتسوق  او للتطبب كانوا يتحاشون المرور بالقرب من سياج قصر الخاتون . بعد هزيمة الجيش العثماني  تحول القصر الى ثكنه عسكرية  أعقبها تحوله مرة اخرى الى مقبرة لجنود الجيش التركي، بعد انحسار الاحتلالين العثماني والبريطاني من البلاد ظلت كاريزما قصر الخاتون المرعبة تحفر مكانتها في ذاكرة المدينة الجمعية على الرغم من مضي  اكثر من قرنين من الزمن على بنائه لم نكن نعلم  يقينا» عندما كنا نذاكر دروسنا في الهواء الطلق بالقرب من سياجه الخارجي ، ان كان مأهولا» بالبشر ام خاليا» وهل يحرسه للأن ذلك الزنجي ضخم الجثة  والذي طالما أثار في نفوسنا  كل هذا  الرعب الوهمي ، وحتى بعد بلوغي السبعين من العمر لم  أكن  على يقين من صحة ورود المعلومات  أعلاه ربما لعبت المخيلة الجمعية  دورا» في رسم أوهامنا تلك فمن يجرؤ يومذاك على الدنو من سياج قصر الخاتون.

عرض مقالات: