يُتحفنا المُخرج التركي جيم كايا بفيلمه الوثائقي الجديد الذي يحمل عنوان “العشق، والمارك الألماني، والموت” الذي عُرض في قسم “پانوراما” في مهرجان برلين السينمائي هذا العام وقد قوبل باستحسان النقاد والمُشاهدين على حد سواء. يتمحور الفيلم على ثيمات متعددة من بينها الهجرة، والحنين إلى الوطن، ومحاولة الاندماج في البلد المضيّف، والتمييز العنصري، والتشبّث بالعادات والتقاليد الاجتماعية، والأهم من ذلك كله هو الحفاظ على الإرث الغنائي والموسيقي التركي الذي وفد إلى ألمانيا في أواسط الخمسينات من القرن الماضي مع موجات “العمّال الضيوف” الذين استدعتهم ألمانيا الاتحادية لسد النقص الكبير في الأيدي العاملة إبّان الثورة العمرانية التي شهدتها البلاد بعد الحرب العالمية الثانية. وقد بلغ عدد العمال الأتراك مليونيّ عامل بينهم 600.000 امرأة، وهم في مجملهم أصحّاء وتمّ فحصهم على أيدي أطباء ألمان لكنهم يفتقرون إلى الخبرة والمهارة الأمر الذي سيعرّضهم للتفرقة العنصرية، ومصادرة حقوقهم الشخصية والعامة، وسرقة طاقتهم البدنية مقابل أجور زهيدة، وسكن متهالك وغير صحّي يسبب، في الأعم الأغلب، لساكنيه شعورًا بالدونية والاحتقار.

يعتمد كايا في هذا الفيلم على تقنية “الرؤوس المتكلمة” التي بلغ عددها 53 شخصية غالبيتهم من الموسيقيين والمطربين والفنانين ومنظمي المهرجانات الغنائية والموسيقية وحفلات الزفاف التي ترضخ للاشتراطات الجغرافية وتراعي موروثات المجتمع التركي في الشمال والجنوب، والشرق والغرب، وتلبّي ما يحتاجه المغتربون الأتراك من موسيقى وغناء، ودبكات شعبية، ورقص أوروپي حديث.

ولكي يطعّم كايا متن فيلمه بعناصر الشدّ والتشويق والإثارة فقد ركّز على بعض الأسماء الفنية المثيرة للجدل مثل فنان الروك أند رول التركي جيم كاراجا الذي وُلِد في إستانبول، ودرس في الكلية الأمريكية هناك، وتتبّع عمليًا الموسيقة الغربية من كثب لكنه سيتعرّف لاحقًا على الموسيقى التركية الأصيلة التي غيّرت توجهاته الفنية وحفّزته لأن يزاوج بين الموسيقى الشرقية والغربية ويخلق شيئًا جديدًا يحمل نكهة إبداعية خاصة. لقد اغترب كاراجا سبع سنوات وكان يخشى العودة إلى وطنه الأم، ومع ذلك فقد قرّر في لحظة حاسمة أن يتجه إلى مطار فرانكفورت ويسافر مباشرة إلى إستانبول. ورغم أنّ السلطات التركية تساهلت معه في إجراءات الدخول، ولم تحتجزه إلاّ أنه لم يستطع رؤية ابنه أو حضور جنازة  والده.

لا أن نتوقف عند كل الشخصيات الفنية التي ظهرت في هذا الفيلم لكننا سنشير إلى البعض منها مثل المغني وعازف الساز  عصمت توپجو الذي أرادنا أن نتخيّله وهو يعزف على القمر بموسيقاه الغريبة واللافتة للانتباه. و يوكسيل أوزكاساب الفنانة التي لُقِّبت بـ “عندليب كولن” وحققت شهرة واسعة بين المغتربين الأتراك في ألمانيا وفي وطنها الأم أيضًا لأن الإذاعة التركية كانت تذيع أغانيها بانتظام كما أنّ المغتربين كانوا يأخذون أشرطتها الغنائية إلى القرى والمدن التركية في سفراتهم السنوية المتكررة. وفي السياق ذاته يمكننا الإشارة إلى مِتين توكوز الذي يُعدّ أول مغني للموسيقى الشعبية التركية في ألمانيا، والثنائي ديرديوكلار، ومغني الراپ “مُحبت” الذي عشقه الجمهورَين التركي والألماني. وثمة مطربون كبار كانوا يقومون بجولات فنية في المدن الألمانية ليتحدوا مع أبناء جلدتهم ويشنّفوا سمعهم بالأغاني التركية مثل ابراهيم داتليسيس وفيردي طيفور وآخرين يصعب حصرهم في هذا المجال الضيق. ثمة أمكنة مهمة مثل البازار التركي قرب المحطة المركزية، وصالة الحفلات التي يرتادها المغتربون الأتراك الذين يقفون في منتصف المسافة بين تركيتهم وألمانيتهم، فلا هم أتراك خُلّص، ولا هم ألمان أنقياء، وإنما هم مزيج من القوميتين التركية والألمانية. يتتبع المخرج حقب زمنية مختلفة تبدأ من “اتفاقية التطوّع” سنة  1961 وحتى الوقت الحاضر. ويستعرض المخرج الحالة الاجتماعية والنفسية للمغتربين الأتراك فبعد عشر سنوات من العمل الدؤوب بدأت معاناة المغتربين الأتراك الذين لم يتقنوا اللغة الألمانية جيدًا، وأخذوا يتعرضون إلى العنف المجتمعي والقتل على أيدي العصابات النازية الجديدة الأمر الذي دفعهم إلى التظاهر والاحتجاج ولاغرابة في أن يظهر مطربون وموسيقيون محتجون خاصة بعد أن طردت شركة فورد للسيارات 300 عامل تركي بذريعة إطالة أمد إجازاتهم السنوية التي لم تجتز الستة عشر يومًا. لا يقتصر التمييز العنصري على الآباء والأمهات في المصانع والمعامل والمتاجر وإنما تعداه إلى الأطفال في مدارسهم. ومع ذلك فقد استمرت الجالية التركية وتضاعف عددها كل سنة، وأخذت أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية بالتحسّن، بل أن الكثير منهم قد أصبحوا أثرياء ولاغرابة في أن ترى بعض المغتربين الأتراك يعلِّقون على ملابس العريس والعروسة أوراقًا نقدية ألمانية تتراوح بين 100.000 و 225.000 مارك ألماني! جدير ذكره أنّ جيم كايا قد أخرج ثلاثة أفلام مهمة وهي:”طبعة جديدة”، و “خلطة جديدة” و “صفقة سيئة”. واشترك مع مخرجين آخرين في إنجاز فيلم  وثائقي استقصائي يتتبع عملية اغتيال هاليت يوزغات التي نفّذها أعضاء من العصابة النازية الجديدة NSU وعُرِض في مهرجانات محلية ودولية.

عرض مقالات: