بين قطع الأخشاب المبعثرة هنا وهناك داخل محله الصغير يمضي الرجل معظم وقته، منذ بزوغ الفجر يغادر منزله حتى حلول الليل، أنذاك يهم عائدا مجهدا  حزينا، وقبل أن يبادر بقطع أية خطوة يحصي ماجناه طيلة اليوم من نقود جراء عمله الشاق  في صناعة تابوت أو تابوتين  يناط به انجازهما في غضون أيام ،  يفرد بعضها لشراء قوت يومه من خضر وفاكهة تشترط عليه إمراته الجاحدة حملها لمنزله والبقية يدخرها لليوم التالي تحسبا إن تعسر عليه في جني بعض النقود كي ينفقها، وإن عاد إليها ليلا فاضي اليدين تملأ عليه أبناء زقاقهم بصراخها وعويلها وتنهال عليه بشتى النعوت والشتائم  مما يضطر للمبيت في مكان أخر تحاشيا لحدوث مالايتمناه، وأغلب الليالي يضطر المبيت خلالها داخل محله الصغير ، هكذا إعتاد ان يمضي حياته، وفي زحمة تفكيره في كيفية الخلاص من حالته تلك التي باتت في تقديره  لا تطاق جراء تبعات أفعال إمراته،  فوجئ ذات مساء يوم ساخن ناجم عن إرتفاع درجة حرارته بجمع من الرجال  مدججين بالسلاح يطوقون محله، فذهل مما رآه، فقال في سره متسائلاً،  ( أنا لم أفعل شيئا  أو ارتكب ذنبا بحق أحد،  فما الذي  دعى هؤلاء العسكر إلى الإحاطة بالمحل.....؟ ) قال قائدهم الذي كان يمتطى حصانا أشقرا مهيبا

- انت اسمك... ؟

رد والحزن يغمره

- نعم.. انا هو......

- تعال معنا  السلطان يريدك فورا

- لكني لم ارتكب ذنبا.......!!

- أصه لا تتكلم ...إترك كل شيئ وتعال معنا

إقتاده العسكر  معهم وتحت حراسة مشددة في عربة ذات حصانين إلى حيث مقر المملكة ، كان طوال الطريق  ينتابه هاجس  الخوف حينا ثم مايلبث أن يتلاشى خوفه مطمئنا نفسه حينا أخر إلى  أنه  لم يرتكب إثما بحق احد، وظل مطوقا برجال الحراسة   حتى وصولهم باب المملكة العملاق  وحين جاء دوره للمثول أمام السلطان أحاطه رجلان من جانبيه وتقدما  حيث يتربع السلطان عرشه، لم يسبق إن رأه من قبل، كان مهيبا في قامته اليافعة

- الاتعلم لم جئت بك إلى هنا....؟

بهدوء أجاب بثقة

- لا أعلم يا سيدي

فرد السلطان

- جئت بك كي تعمل تابوتا لأمي العجوز المريضة، وأريده تابوتا بمواصفات معينة ومختلفة عن الجميع، حيث أريدك أن تدعمه مطعما بالذهب  وبعض المجوهرات بحيث يكون لائقا بمقامها وخلال  ثلاثة أيام أمامك فقط لإنجازه وسيمضي معك بعض الحراس يلبون  إحتياجاتك كافة.

هز الرجل رأسه ثم أجاب:

     -  نعم يامولاي سمعا وطاعة

 وبعد خروجه التقط انفاسه وتبدد خوفه تماما حين أدرك أمر السلطان

    وفي  صباح اليوم التالي هم بالسير مثقلاً بالتفكير وهو يهم حزينا، مرتبكا  في كيفية الإسراع في تدبر أمره لإنجاز مطلب السلطان  حتى وصوله مقر  محله

وهناك فوجئ بما لم يتوقعه، ثمة أمرأة تلف جسدها بعناية بعباء حالكة جالسة في زاوية مجاورة لمحله، لا يعرف سبب وجودها هنا  حتى عرف إنها كانت بأنتظاره من نظرات عينيها ظلت تصوبهما نحوه، تأمل وجهها الجذاب بشكل لم يعتده من  قبل ، ثم استفسر منها مستغربا عما تطلبه

- لقد جئت إليك ياسيدي بإلتماس اتمنى ان تنجزه لي

  قال برد مقتضب:

- وما هو التماسك...؟

-  صناعة مهد لطفلي الذي اتعبني بكاؤه

تفرس في وجهها بإمعان ثم قال:

- لكني لااعمل سوى التوابيت

- لأجل إبني، وإن رفضت ساجد نفسي حائرة وحزبتة ولقد جبت سوق المدينة من دون ان يستجب احد لإلتماسي ،  فكر طويلا ثم قال

- سافعل لكن امهليني بضعة أيام

- لقد تركته عند جارتي وهو يجهش في بكاء متواصل منذ أن وضعته   قبل بضعة أشهر وهذا يقتضي سرعة العمل وها أنا جئت التمس فيك رباطة الجأش

بعد أن ركز يتأمل نظراتها الحزبنة قال متسائلاً:

- ولم لم يأت زوجك.. يطلب مني ذلك كي اتشاور معه؟

- انا أرملة بعد أن فقد زوجي في الحرب قبل نصف عام

ظل يفكر  وهو حائر بين صناعة تابوت المنوط صناعتة للسلطان وبأمر لايقبل التأخير  ومهد المرأة الأرملة،  بعد تفكير مرتبك بين الشد والجذب صمم على صناعة المهد متحديا  أمل إنجازهما معا سوية،  وبعد أن باشر في العمل ليل نهار ادرك إنه  أخفق في صناعتهما سوية ، وحين بلغ خبر تأخره عما الزمه به السلطان اودعه  السجن  في زنزانة منفردة ومظلمة، وبالرغم من شدة معاناته داخل معتقله، كان يشعر بالغبطة جراء ما صنعه لطفل المرأة الأرملة، وعند انتهاء مدة سجنه خرج والغبطة مازالت تنتابه إزاء فعلته، وعند خروجه  اذهله ما رآى أمام باب السجن..  منظر الأرملة التي كانت بانتظاره ولا يعرف سر مجيئها إلا بعد أن ابلغته خبر تضحيته بنفسه لأجل طفلها في الوقت ذاته  تسديد ما بقي في عاتقها من مبلغ المهد ، لم يقل شيئا إكتفى وهو يدنو منها، إكتفى بتأمل احدهما للأخر بنظرات تغمرها الدهشة  وهما بالسير معا وهو مرتبك خشية رفضها له، غير انه شعر بها متشبثة بالسير الى جواره وبريق الغبطة يبتسم مرحا في عينيها.

عرض مقالات: