رسالة طويلة عبر الهاتف وصلتني من زوجتي تذكرني فيها بقائمة الطلبات التي عليّ شراؤها بعد انتهاء دوام عملي .. هذه القائمة الثالثة التي تكتبها خلال شهر واحد .. أشياء تخص البيت .. لكن هذه  المرة كتبت في ذيل القائمة عليّ أن لا أنسى شراء دراجة جديدة لابننا الوحيد لأن القديمة لم تعد تصلح للركوب بعد أن بلغ الصبي عامه السادس كما ذكرت في القائمة.

ابتسمت وهي تذكر عمره وكأنني لا أعرف.

حين تأكدت من أن الأكياس جميعها ومعهما الدراجة الحمراء كما طلبت قد أصبحت في صندوق السيارة .. توجهت للمطعم الذي تحب زوجتي وابني وجباته كما وعدتهم مساء البارحة في إحضار الغداء منه. في آخر لحظة تذكرت أنني لم اشترِ لها رواية جديدة كما عودتها حين تنتهي من قراءة واحدة .. طلبت من البائع مساعدتي لأن الكتب الكثيرة التي ملأت الرفوف أصابتني بالحيرة فأشار لي برواية عنوانها “موسم الهجرة إلى الشمال” للكاتب الطيب صالح .. وعلى الرغم من أنني لم أسمع به من قبل إلا أن صاحب المكتبة أكد لي بأنني لن أشعر بالندم لشرائها حين انتهي من قراءتها.

حرصت على دخول المنزل بالمفتاح الذي معي .. لم أشأ إزعاج زوجتي بطرق الباب لأني أعرف أن وصولي يتزامن مع موعد نومها المقدس .. وقفت وسط الصالة بعد وضعي للأغراض على الأرض التي بدت متسخة بشكل لافت .. نظرة يأس حانت مني صوب الأثاث المغبر وأكواب الشاي وفناجين القهوة المرمية هنا وهناك منذ أسابيع حتى تيبس قعرها بما بقي فيها .. رائحة أعقاب السجائر التي لا حصر لها جعلت رائحة البيت مقرفة إلى حد لا يحتمل فتوجهت لفتح النوافذ وغلق المصابيح الكهربائية التي ربما تركتها كعادتها مشتعلة منذ ليلة البارحة .. كل شيء في غير مكانه حتى أنني احتاج لوقت طويل لأجد قميصًا نظيفًا أو بنطلونًا مكويًا .. تصرخ الفوضى من زوايا بيتي الذي عشقته وكنت لا أجد الراحة إلا فيه .. لكني لم أعد اتذمر من شيء منذ إصابة زوجتي بالمرض الذي تطلب على إثره دخولها المشفى لمدة عامين.

عامان مرا عليّ حفظت فيها أسماء الأدوية .. تعرفت على كل الأطباء في المشفى .. أصبحت معروفًا عند الممرضات من أنني الرجل الذي يعشق زوجته حد إنه يرقد معها في الحجرة نفسها خوفًا من أنها قد تصحو ولا تجد أحداً بجانبها.

عودتها للمنزل ثانية حولتني لإنسان آخر .. أقل عصبية من ذي قبل وأكثر حكمة .. لم أعد مهووسًا بالنظافة التي كانت سببًا في أغلب مشاكلنا .. لا أنكر أنها كانت تتعمد استفزازي حين تقول لي: إنك لست نظيفًا بل مريضًا بالنظافة لترشني  بعدها بالماء وتهرب ضاحكة. أذكر تلك المشاجرة اللذيذة التي وقعت بيني وبينها حين وجدت  أثار بقعة قهوة ما زالت باقية على قميصي حتى بعد غسله.

 انتهت المعركة بقبلة لصالحي وخاتم ذهبي لصالحها ونزهة لصالح ابننا الذي اكتفى بالنظر إلينا والاستغراب مما نفعل .. تذكرت موعد وصوله من المدرسة فأسرعت بإعداد طاولة الطعام بعد إزاحة الصحون القديمة والملاعق المتكدسة  فوق بعضها وحرصت على وضع شمعتين في الوسط قبل توجهي لفتح غرفة النوم .. وأنا ما أزال ممسكًا بمقبض الباب .. نظرت إليها وهي ترقد على السرير كطفل وديع وإلى جانبها الرواية التي دائمًا تحب قراءتها ..  بيت الحب ..  قالت لي ذات مساء حين سخرت منها لأنها أعادت قراءة الرواية لأربع مرات: بطل الرواية لم يعد له وجود على الأرض .. مثلك أنت يا حبيبي .. الفرسان أشباهك انقرضوا .. أنت نسختي الوحيدة في هذا العالم !!  كلماتها كانت كالصعقة الكهربائية الخفيفة ..  انعشتني وجعلت الدم يسري بنشاط  في عروقي .. بعدها وجدت أن الحياة أجمل وألذ من قبل.

اقتربت منها محاولًا أحداث جلبة لأجد عذرًا كي تصحو .. لكنها خيبت ظني وظلت نائمة وأنفاسها تكاد لا يسمع لها صوتًا .. حين تمددت بجانبها على السرير .. وجدت أن فراشي دافئًا .. كأن أحد قد نهض من عليه قبل  قليل .. ربما هي من فعل ذلك كما أخبرتني من قبل .. تنام في مكاني  لأجده دافئَا حين أرغب في النوم .. إنها سيدة أيامي الماضية وسيدة ما تبقى من العمر.

 أدارت رأسها نحوي ثم فتحت عينها وابتسمت.

لم يعد يفصل بين جسدي وجسدها سوى بضع بوصات ملأتها أنفاسنا وذلك الدفء المنبعث من كفينا التي نامت إحداهما في حضن الأخرى.

قالت لي حين صحوت بعد ساعات والعتمة قد بدأت تخيم على الغرفة:

- هل تعرف ما الذي فعلته وأنت نائم؟

لم أرد .. ابتسمت فقط .. فقالت:

- بقيت أنظر إليك حتى أخذتك الأحلام مني.

دنوت منها حتى التصقت أجسادنا ثم وضعت يدي تحت رقبتها ووضعت رأسي فوق رأسها برفق وقلت:

- لا تصدقي إن هناك شيئًا يأخذني منك حتى لو كانت الأحلام نفسها .. بل الموت لن يفعل ذلك.

وأنا ما أزال محدقاً في سقف الغرفة أنظر للثريا التي اختارتها بنفسها لتتلاءم مع لون الجدران والستائر .. سألتني باستغراب:

- لماذا شعر ذقنك طويل؟ أرجوك تخلص منه لأنك تعرف بأني لا أحبك ملتحيًا !!

- سأفعل بالتأكيد حبيبتي.

صوت ابننا وهو يناديها جعلها تترك أحضاني وتهرع إليه في حديقة البيت حيث يحلو له إطعام الطيور والأرانب البيضاء التي يعشقها .. ضحكاتهم وأصواتهم العالية أغرتني بالنظر إليهما من خلال النافذة .. ابتسمتْ وأرسلت لي قبلة في الهواء حين رأتني ودعتني للحاق بهم.

سألتني بعد أن جلست إلى جانبها على الأرجوحة الوردية التي تتوسط  الحديقة:

- لماذا أهملت حديقتنا وتركت الزهور المسكينة تموت بهذا الشكل ؟ وشجرة التين تلك .. ألم تكن أول شجرة نغرسها معًا .. كيف سلمتها للموت هكذا ؟!

- آسف حبيبتي!! إنشغالي في العمل الأيام الماضية هو السبب .. لكن وعد مني سأهتم بالحديقة وأعيد منظرها كما كنت تحبين.

قبلتني وألقت برأسي على كتفي ثم قالت كأنها تذكرت شيئًا مهمًا:

- أريد أخبارك بشيء غريب حصل منذ أيام.

- قولي حبيبتي .. استمع لكِ.

- ما سأقوله لا أريد لابننا أن يسمعه.

حين شعرت بأنها حازت على انتباهي .. قالت بصوت يشبه الهمس:

- لم أرغب في بث القلق فيك وقتها ..

- حبيبتي .. ما هو هذا الشيء؟؟

- منذ أيام .. خرجت في منتصف الليل من غرفتي لأنني سمعته يبكي في غرفته بصوت منخفض.. حين رأني دس رأسه تحت اللحاف وتظاهر بالنوم .. الغريب أنه لم يخبرني سبب بكائه حين سألته .. ليتك تفعل أنت و تسأله.

نهضت من مكاني واقتربت من شجرة البرتقال التي كتبت على جذعها أسماءنا نحن الثلاثة لأنني لم أرغب أن ترى الدمعتان اللتان  سقطت على خدي.

 هل أخبرها حقا لمَ هو يبكي ؟

ينتابني الخوف حين أفكر بأخبارها أن ابننا قد توفي منذ ثلاثة أعوام بحادث سيارة !!

لكن خوفي يزداد حين أتذكر أنها قد توفيت معه في الحادث نفسه.

عرض مقالات: