بتفهم كبير وقفت على الدراسة النقدية المطولة التي نشرها الصديق الاديب ليث الصندوق في مجلة (الثقافة الجديدة) ، وبوقفة التفهم نفسها تابعت بأهتمام ماكتبه عدد من الزملاء والاصدقاء الادباء ، يحضرني منهم ( باسم عبد الحميد حمودي / رنا صباح خليل / مسلم عبد الامير / د. فائزة عبد الواحد / محمود خيون / عبد الحسن الغرابي / عادل سعد )، وكانت روايتي التي تحمل اسم (عيادة الحاج مهاوي ، الصادرة عام (2021) هي محور الدراسة والقراءات النقدية، وقد لاحظت ان علاقات الفراش او موضوعة الجنس ، قد اخذت الحيز الاوسع من كتاباتهم ، وبرغم زوايا النظر المتباينة الى هذا الموضوع ، الا انها اغنت ثقافتي المحدودة في هذا الميدان ... ومع ذلك فأن النسبة العظمى من القراء التي تنتمي الى خارج الوسط الادبي ، كانت ترى الرواية على انها ( مجموعة مغامرات جنسية ) .. وبالقدر الذي احترم فيه اية وجهة نظر ، ولكن الواضح ان الوجه الاخر لعلاقات الفراش قد غاب عن ادراكهم لانشغالهم بالوان الصورة وليس بمضمونها ، او – ربما – ان الوجه الاخر لم يستطع التعبير عن هويته بما يكفي !!

ابتداء أقول : ان الكتابة في الجنس وعنه ليس ثلمة ادبية ولا تهمه توجب الدفاع – يستثنى من ذلك الجنس المبتذل الذي لايبتعد عن اثاره الغرائز – ففي تجربتي الادبية المتواضعة عن علاقات الفراش ، تعاملت معها على انها ( وسيلة لايضاح هدف وبلوغه ، او لخدمة قضية ) وحيث توفر هذا المبدأ يبقى الجنس في الخط الثاني ، ويبقى مجرد معبر للوصول الى ماهو اساس ورئيس، ومن هنا يمكن لهذه الوظيفة ان تؤدي دورها بأكثر من اسلوب ... ففي مجموعتي القصصية ( ليلة الاحتفاء بالحرية ) الصادرة عام 2016 مثلاً ، كانت القصة التي حملت عنوان المجموعة قد اتخذت من علاقات الفراش ( رمزاً سياسياً ) لأن ( البطل يفشل في اتمام مهمته الجنسية والبلوغ الى الذروة عدة مرات لهذا السبب او ذاك ) يقابلها   ( فشل محاولات اغتيال رئيس النظام السابق عدة مرات لهذا السبب او ذاك ) وليلة نجح البطل في اتمام المهمة ، جاء نجاحه موشوماً بالهستيريا والارباك والفوضى ، يقابلها نجاح التخلص من رئيس النظام ، حيث جاء موشوماً بالفوضى والعبث والحواسم !!

في عيادة مهاوي كان الجنس يعبر عن دلالات بعيدة عن الرمزية ، قريبة من الواقع الحياتي ووقائعه ، فقد اردت الاشارة الى اكثر من قضية ، في المقدمة منها ( العلاقة بين وعي المرأة التعليمي والثقافي ، وبين فهمها للجنس وكيفية تعاملها معه ) ، كانت هناك ثلاثة نماذج ، الاول عبرت عنه إمرأتان ( زكية وصبحة) ، كلتاهما تعانيان من حرمات جنسي كامل ، وكلتاهما أميتان تعليمياً وحضارياً ، ولذلك تفوق العطش الجنسي على الرادع المعرفي والديني والاخلاقي ، وتحول الى نوع من الجنون والهمجية ... الثاني تمثله ( فضيلة) – زوج الحاج مهاوي - انها ليست زوجه الوحيدة – ويوم تعرفتْ على بطل الرواية كان فراشها يعاني من البرودة منذ سنوات بعيدة هي دون الخمسين سنة ، ومهاوي على مشارف الثمانين – ولكن فضيلة نالت قدراً من التعليم ... خريجة الدراسة الاعدادية يوم كانت في المدينة ولديها محاولات في مجال الكتابة الادبية والنشر .. فهي بهذا المعيار اعلى وعياً وثقافة ، واعمق ادراكاً من النموذج الاول ، ولذلك كانت في كل مرة تروي حاجتها الجسدية مع البطل ، تأخذها نوبة من الندم والبكاء ... النموذج الثالث تمثله ( وضحة) ، سيدة اكملت دراستها الجامعية في العاصمة ، ومارست مهنة التدريس في احدى الثانويات ، ووضحة كما تقدمها الرواية : محبوبة الطلاب ... تساعدهم على تجاوز اية مشكلة او عقبة دراسية ، وكانوا يلقبونها بالملكة في اشارة الى جمالها الآسر والى مواقفها الانسانية والتربوية ... تزوجت من ابن عمها الذي لم يكن يكافئها في شيء ، ولكن تلك هي اعراف العشيرة ... مات و لم تكمل معه شهر العسل .. ويوم تركت المدينة والتحقت بشقيقها جاسم ( شيخ القرية ) ، كانت العقل الذي يتدبر كل شيء ...شقيقها يحترمها ويعتمد عليها في قراراته ، أما هي فقد رافقها جمالها وعقلها ووعيها الى القرية ، مثلما رافقتها وسائل التواصل الثقافي ... في مسكنها المستقل معالم المدينة ... الترتيب والاناقة ومكتبة صغيرة تزودها بالجديد ، وراديو يعمل على البطارية يضعها قريباً من احداث العالم السياسية والفنية والثقافية ، قدور الطبخ والصحون والافرشة وغرفة الضيوف .. جميعها تنتمي إلى المدينة و .. ولهذا عندما تعرفت على البطل – وهو شاب من عمر اولادها لو كان لديها ابناء – كانت ممتلئة بعناصر الابهار مجتمعة ... لقد جن البطل بشخصيتها التي جمعت بين الجمال والثقافة والذكاء والميل الى المزاح ، وبين عفتها التي وضعته امام رؤية جديدة تماماً للمرأة .. ومن هنا رسم الوعي صورة رومانسية انسانية للجنس ، ولم يكن غريباً عليهما ان تنتهي حياتهما بزواج هو ارقى ما كان يحلم به الطرفان من دون ان يقف فارق العمر حائلاً بينهما ، وهكذا تطرح الرواية ثلاثة مستويات من العلاقة بين ( الوعي والجنس) ، وهو الامر الذي يجعل من علاقات الفراش وسيلة تمتلك عناصر ( التشويق ) سواء على المستوى الواقعي ام الروائي ، لخدمة هدف نبيل .

ثمة اخيراً ما اود الاشارة اليه ، فنحن لانتعرف على اسم البطل الا في السطر الاخير من الرواية ، انه آدم ... وآدم في الموروث الديني ابو البشرية الذي كان وراء خروجه وخروج ذريته من الجنة – حتى لو كان مفهوم الجنة يراد به بستان – في حين ظلت اخطاء آدم البطل ( محدودة) جداً و (سرية) تماماً ، ولم تتحول الى ظاهرة ..أما الذي يقابل اخطاء البطل فسلسلة من المواقف النبيلة ...آدم نذر وقته وراحته ونفسه لخدمة سكان القرية ليلاً ونهاراً ، وزيارة مرضاهم في أي وقت من أوقات الليل على وجه الخصوص غير مكترث بالمخاطر على حياته ..آدم علم اهل القرية الكثير الكثير من العادات الصحية في الاكل والنظافة وتعقيم الماء وتصفيته ، مثلما قدم لهم خدمة العمر عندما افتتح في عيادته المتواضعة اكثر من دورة لتعليم الشباب من الجنسين على ( زرق الابر) و .. ولذلك يوم (قتل) تسابق اهل القرية – وحتى القرى المجاورة – لبناء دار عبارة فخم يحمل اسمه مع مفردة (الشهيد )  ، وتحول قبره الى مزار شبيه بمزارات الاولياء والصالحين .... ولعل الرواية اوصلت بهذه المفارقة الغريبة بين ( مزار الرجل الصالح آدم) وبين حياته الجنسية، مايوجب التأمل والاجتهاد ... من المفيد لفت النظر الى ان (مستويات الوعي الجنسي ) لم تكن حكراً على المرأة ، فآدم .. الشاب ( قليل الخبرة والتجربة والوعي ) في بداية وصوله الى القرية موظفاً صحياً .. لم يعد كذلك في نظرته الى الجنس وتعامله معه بعد سنوات من النضج العقلي والعاطفي ، ومن الخبرات الحياتية المتراكمة وتنامي الوعي الثقافي....

عرض مقالات: