بقدر ما تمتاز التجارب الابداعية في اي حقل من حقول الاداب والفنون بخصوصياتها وتفرداتها الا ان العودة الى التحقيب الجيلي تجده امرا لا مفر منه مهما بلغت الاسباب. وهنا لابد من العودة الى عقد السبعينيات الذي شهد نهضة عارمة قلبت موازين الوعي والذائقة، هذه الحقبة التي يحق لنا وبثقة تامة تسميتها بزمن التحولات الكبرى، في حقل الموسيقى والغناء عراقيا، بل وحتى عربيا، تدفقت ولادات الزهو والجمال، اورقت المحبة واتسعت افاقها، ففي عودة وردة الجزائرية بما حققه بليغ حمدي لها من اغنيات انطلقت من ستوديوهات مصر كان العراق غنائيا يشهد نهضة او حركة تجديد ازاحت المألوف الرتيب بأصوات غنائية تماهت امكانياتها مع المنجز اللحني على يد طالب القره غولي، كوكب حمزة، محسن فرحان، سامي كمال....واخرين. ولابد هنا ايضا للاشارة الى ثقافة هذه الطاقات التي نهلت من فكر علمي حضاري تمكن من تحدي سياسة المؤسسة الرسمية وفرض نناجها الابداعي بقوة المنجز الذي شغل الناس، فكانت الاغاني يوميات الناس في الحب الذي يغلف ارواحهم، انها مرحلة الاغنية المثقفة التي ازاحت كل ماهو سطحي وبليد.فكان محسن فرحان احد اركان اللحنية العراقية الناهضة تلك، واستطاع بقدراته الابداعية ان ينجز اهم اعماله لأصوات غنائية عالية القدرات الشجنية كحسبن نعمه (غريبة الروح) سعدون جابر (عيني عيني، البارحة) قحطان العطار بأغلب اغنياته...الخ.

تشبع محسن بالموروث العراقي والكربلائي تحديدا بحكم اقامته هناك وعمله في مديربة النشاط المدرسي بكربلاء وراح ينبش بذلك الموروث حتى ادخله في ايقاعاته اللحنية وهذا هو شأن الاغنية العراقية وما امتازت به من حزن عميق الجذور _ تاريخيا، ويمكن لنا رصد تلك الايقاعات في اغنية (البارحة) فسرعان ما تكتشف انك سائر في موكب من مواكب العزاء الحسيني،.

هكذا تفتقات في وعي الفنان لم تكن بسهولة ما لم تتوفر موهبة عالية يحرص صاحبها على ادامتها والاعلان عنها عبر مايكتشف في الاصوات ودربتها.

حياة محسن فرحان حافلة بكل ما حصل لحياة اي عراقي تعبث بها شهوات الحكومات ونزوات الحاكم، لاسيما وانه تمسك في البقاء بالعراق، وهمس لي ذات جلسة كيف اضطر لأن يمتهن بيع الخضار في واحدة من سنوات الحصار القاسية، كحال العديد من مثقفي العراق الذبن اضطروا حتى لبيع مكتباتهم. بقي ابو ميديا أمينا لتقاليد الاغنية العراقية مدافعا عن هويتها بكل ما يملك من ابداع حقيقي، ولم تجرفه مغريات أدت الى تشوه ملامحها عبر موجات طارئة صنعتها سطوة المال عبر ستوديوهات انتاج فني اسهمت في تخريب ذائقة الناس من خلال كل ماهو هابط وبذيء اسوة بما حصل للقصبدة العامية العراقية التي تشهد اليوم تراجعا مخيفا وهي التي عرفت بصناعة اجمل مافي الغناء العراقي.

برحيل محسن فرحان يكون الجمال قد خسر واحدا من قاماته البارزة، وتكون الذائقة قد فقدت واحدة من ركائز صناعتها الاولى.

سلاما لك ايها المحسن الينا جميعا.

عرض مقالات: