1

في البداية علينا توضيح مسألة دائمًا ما تغيب عن معالجتنا لحياة أشخاص مثقفين ومتميزين، فنعزوها لامور بعيدة عن البحث العلمي، اضع هنا تصوري البسيط وهو لماذا يشترك المثقف في نضالات شعبه ويلقى نتيجة مشاركته ما يلقاه من سجن وتهجير وفصل ومطارة وحرمان وهجرة؟ ولو أمعنا النظر في طبيعة هذه المشاركة، نجدها متجذرة في البعد الإنساني للمثقف،  المثقف ليس من يقرأ ويكتب ويشارك فقط، انما هو أيضا من ينقد ويتعرض للمواقف الصعبة ويكون رأيا واضحا مستندا على رؤية إنسانية تتجاوز أحيانا أوضاع بلده. هذه الرؤية هي جزء من  نزعة المقاومة الفكرية  التي رافقت عصر التنوير وأكدتها مسبقًا الثورة الفرنسية، ولم تكن هذه النزعة – نزعة المقاومة-غريبة عن المثقف العراقي، ولا عن الإنسان  العراقي ككل، ولكنها اخذت طريقة متميزة  عبر نماذج  تدرك مسبقًا أن النضال ليس كلامًا، لعل مظفر وكامل شياع مثلًا على درجة واحدة من المواجهة كلاهما وقفا موقفا وطنيًا وكانت الحصيلة أن فقدا جسديهما دون أن يفقد موقفهما. سيكون الجسد، هذا الكيان الذي يدخل منه العدو الى الذات المناضلة كي يقهره استثنائيا في حالة مظفر، كما سنرى ان العشرين سنة الأخيرة كان مثقلا بالمرض والتنقل من مشفى إلى آخر دون أن يفقد موقفه الوطني،  على العكس من بعض المثقفين ما ان يمرض حتى يبحث عن ملجأ آخر ، أو دعوته للآخرين ان يتفقدوا ويزوره!!! في الجسد أحد أهم إشكاليات الثقافة عندما يواجهه تعسفًا أوظلمًا أوتعذيبًا.ولدينا امثلة كثيرة هم شهداء الحزب الشيوعي عندما وقفوا بوجة الطغاة لم يكن الجسد موضع اهتمامهم بقدرما كان فكرهم ووطنيتهم.

في حياتنا السياسية. لم يكن نضال المثقف نضالًا لصالح فئة دينية أو قومية أو عشائرية، بل كانت النزعة وطنية وإنسانية. مشبعة بروح التمرد والاختلاف. هذه النزعة كانت احدى طرق المقاومة فضلاً عن أنها جزء من النزعة الإنسانية ككل التي ظهرت نتيجة للتفكير، “النزعة التي يكون المثقف فيها واعيًا بمشكلات مجتمعه”. ولذلك انتصر المثقف العراقي لشعوب أخرى كما فيتنام وكمبوديا ولاوس وتشيلي وظفار وفلسطين وغيرها. وتعود جذورها إلى ما احدثته الثورة الفرنسية  من أنها جزء من  “التصور العلمي العقلاني للكون”.

لا يمكن الحديث عن هاتين الصفتين للمثقف في العراق، إلا عن طريق تنظيم سياسي كان يضع مثل هذه المهمات ضمن نشاطه النضالي، وهو الحزب الشيوعي العراقي. وفي طرائق نضال المثقفين العراقيين، نجد تضافر عاملين هما من ضمن النزعة الإنسانية والنزعة العلمية الكونية، وهما الثقافة والأيديولوجيا.  هذان العنصران هما اللذان يحددان تجربة مظفر النواب وغيره من المثقفين: الجواهري، جواد سليم، غائب طعمة فرمان، سعدي يوسف، الفريد سمعان، كامل شياع، رشدي العامل، يوسف العاني، جاسم المطير، سعدي الحديثي، و آخرين ليس ميدان احصائهم الأن.. لذلك لا يجري حديثنا هنا عن مظفر دون أن نضع في حسابنا : النزعة الإنسانية  للثقافة والتفكير العلمي العلمي للاديولوجيا ضمن ثقافة وممارسة الحزب الشيوعي العراقي. دون ذلك لم يظهر مثقف مناضلا من دون ان يرتبط باديولوجيا، ومن هنا نجد ان مسار الحزب الشيوعي العراقي النضالي تجسد عبر المنتمين إليه ليؤدوا فلسفته ضمن الحدود التي تفرضها المواقف عليهم. وخاصة من المثقفين. الثقافة عندنا “هي طريقة آلية لدمج الأفراد داخل جماعة اجتماعية ينتسبون إليها ويتماهون بها لاشتراكهم جميعًا في معاييرها وقيمها وقواعدها المشتركة”() سوسيولوجيا الثقافة والمثقفين ص 13.لأن الثقافة تتسم “بالنزعة الإنسانية و التصور العقلاني العلمي للكون، ومكانة الإنسان فيه”() المصدر نفسه ص 37. مما يعني ان نضال المثقفين  العراقيين كان نضالًا شموليًا وإن كان محددًا بالعراق.

أما الإيديولوجيا: التي هي” علم وضعي  يكون موضوعه هو الفكر البشري ذاته”() ص 37. كانت عندنا طريقة للانتماء الى فكر تنويري مناهض للاستغلال، وطريقة نقدية منظمة للآليات التي تولد الأفكار لتتطور، والترابط ترابطًا يفضي إلى تكون  المعارف والمذاهب ورؤى العالم في الفكر البشري”. ظهرت الأيديولوجيا مع الثورة الفرنسية ، كنتيجة لفلسفة الانوار، والاتجاه التجريبي الفلسفي” () ص 37.وأصبحت جزءً من آلية الاشتغال الثقافي والسياسي. ونجدها في ثقافتنا العراقية أشبه ما تكون بالهوية التي تعيّن هذه الفئة دون أخرى.

2

خلاص حياة أي مثقف تشخصها  العلاقة بين الثقافة والاديولوجيا، وبالنسبة لمظفر النواب مرت هذه العلاقة في ثلاث مراحل، اسميتها ثلاث ورقات، وقد تكون ثلاث محطات، المهم أن البنية العامة الثلاثية طريقة نقدية، لمعاينة النزعة الذاتية للمثقف مقترنة بالموقف الإنساني والمعرفة العلمية للكون. ويخطئ الكثير منا عندما يتصور أن نضال مثقف ما هو نضال شخصي أو عشائري أو قومي أو ديني، هذا النوع من المواقف المضادة للسلطة لا يسمى نضالًا، النضال الحقيقي هو من اقترن إيديولوجيا ومن تشبع فلسفة الثقافة الوطنية التنويرية.

هل كان مظفر النواب ضمن هذا التوجه الفكري والفلسفي طبيعة النضال؟ أم كان مجرد شخص عارض النظام السابق من أجل مصلحة شخصية؟ استقراء حالة مظفر تدفعنا إلى استقراء طبيعة الثقافة والاديولوجيا في العراق، سنجد أنفسنا أمام مدونة تاريخية يمكن اعتبارها معتمدًا سيرة المثقف العراقي العضوي، المثقف الذي تجرد من مواقفه الذاتية وذهب لمواجهة السلطة بكل ما يملك من قوى معرفية ومن رؤية إنسانية وعلمية للكون، مظفر وغيره ضمن هذا الصور العلمي للنضال.

بالطبع لن نستعرض هنا تطورات الاديولوجيا والموقف الماركسي منها،هذه مسألة معقدة، ولكن الاديولوجيا في ثقافتنا وفي بنية مجتمعنا العراقي لم تستو على تعريف او فهم واضح، وهو ما يجعلها جزءً من سوء فهم النضال نفسه، ولم يجهد الحزب الشيوعي نفسه في توضيح الابعاد الخاصة بالايديولوجيا وموقف ماركس وبقية المفكرين منها. لذلك سيكون حديثنا عنها  حديثًا عامًا وغامضًا  بعض الشيء وربما غير دقيق.

3

قسمت ورقتي هذه الى ثلاث ورقات خاصة بمظفر النواب: انسانًا ومثقفًا وماركسيًا  ومتمردًا، وذاتيًا. ولذلك تصاحبنا هذه الثيمات مع كل ورقة بدرجات مختلفة. وفي المثل الشعبي يقال أن الجدر ما يركب إلا على ثلاثة مناصب. ( “المنصبة” الحجر الذي يوضع تحت القدر).لذلك يشخص مظفر النواب هذه البنية الثلاثية حياة وعملًا ومواقفًا فاغني تصوره المعرفي عن هذه وأصبحت طريقة إجرائية لمعاينة سيرة أي شخص يمتلك تميزًا نضاليًا.

مهمتنا في هذه المحاضرة الكشف عن الخطوات التي يتخذها المثقف لتجذير موقفه، واسميتها في مداخلة سابقة عن المثقف جلال الماشطة “الكتابة باقلام مختلفة”، في هذه المرة يكون مثالنا مظفر النواب وهو شخصية سياسية وثقافية واجتماعية، لذلك سيغتني مسار سيرته  النضالية بحياة مظفر الشخصية. والتي بدت لنا أنها متشعبة الطرق ومتقلبة المسارات والمماشي، وفي حقيقة امرها ليست كذلك، بل هي حياة منسجمة ومتسقة ومتدرجة،  لكن الظروف التي أحاطت مراحل نضاله  كانت متعرجة، وإن بدت للبعض انها متغيرة في تحولاتها الذاتية، والسبب هو أن الإيديولوجيا  في تفكيره لم تسر بطريقة منتظمة، مما انعكس توجهها الإنساني على مثقفيه، الذين بدأوا يفكرون كل بطريقتهم الخاصة.

ان حياة عدد من المثقفين البارزين، لا تستوعب ابعادها ورقة واحدة، يمكن ان تكتب فيها عن ماضيهم وحياتهم المشتبكة مع المشكلات الاجتماعية والسياسية، وعن الكيفية التي صار عليها مميزًا  في مسار المجتمع بحيث نحتفل بمرور اربعين يومًا على وفاته، وربما سيكون الاحتفال تقليدًا سنويًا بمظفر النواب ومستمرًا لسنوات عديدة، لذلك رأيت أن اوزع مسيرته بمختلف أبعادها وأنشطتها ، صفوها  وكدرها مسارها المستقيم وتقلباتها بين ثلاث ورقات كتبها مظفر ممارسة عملية، فأصبحت سياقًا حياتيًا  شكلت مسيرته إن لم أقل تشكل جزءً من مسيرة المجتمع العراقي، مما يعني أن الثقافة والاديولوجيا عنصران مهمان في رؤية الكيفية التي يكون عليها المثقف..

4

الورقة الأولى: اسميتها الورقة السكيتش.أو الكتابة بالقلم الرصاص. ويمكن تمثيلها بالتخطيطات الأولية لكل مشروع، وغالبًا ما تكون الورقة عامة قد يشارك الآخرون في الشخبطة فيها،  أي أنها النص العمومي الذي يتألف من المشاركة العامة، وتشبه هذه الورقة الكتابة الأولى لأي موضوع أو التخطيطات الأولية التي يعملها الفنان للوحته، أو مجموعة الأدلة من قبل المحققين من موقع الحادثة لدراستها اجرائيًا، أو هي المدونات الشفاهية  عن حكايات لم تكتب بعد. وغالبًا ما يحمل بعضنا دفترًا وقلمًا يدون الملاحظات العابرة التي يخطط بها لموضوعه مستقبلًا. فن السكيتش هو فن الملاحظات العابرة، او هو البحث عن الحيوات النابضة التي ما تزال تضخ معارف وتصورات في الطبيعة. وقد أصبحت اللوحة السكيتش ساحة واسعة يجوب الفنانون فيها براري الورقة والفكرة، فلا شارع واحد يحتوي مظاهرة ولا لافتة واحدة تعبر عن أيديولوجية الجهة المعترضة، ولا خطاب مكتمل يصنعه المتظاهرون، كل ما يجري ثمة حركة اجتماعية عامة يحتويها الشارع الوطني وفيها جموع بشرية ولافتات وهتافات، ومشاركة عامة من قبل الناس، وقد يكون فن السكيتش مكملا بذاته، كما يشير القاص الكبير محمد خضير. يقال ان مظاهرة إسقاط معاهدة بورتسموث في العراق كانت تقودها خلية شيوعية مؤلفة من ستة اشخاص، لكنها جمعت الآلاف من المتظاهرين بحيث اسقطت وزارة وعطلت معاهدة وذهب ضحية موقفها شهداء. هذه الثقافة الإيديولوجيا لم تفهم إلا بكونها طريقة للنضال. وفي هذه الجموع تجد المثقف والعامل والموظف والفلاح والطلبة، انها الورقة الاجتماعية العامة التي يشترك الجميع في رسم خطوطها الأولية دون انتصار هذه الخطوط الى لوحة مكتملة أو تؤدي الى نتيجة سياسية ملموسة.أو تكتفي بما أنجزته، فأي خط نضالي جماعي او شخصي يبقى ناقصا و منفتحا على الزمن المقبل، هكذا بدا مظفر النواب شابا نشطا ومعارضا ومناضلا في شبابه   ولذلك تكون ممارسة الأولية بين 1950-1963 كتابة السكيتش  التي بقيت بحاجة إلى مواصلة وتكملة وهو ما فعل ذلك في بقية الأوراق. الحياة السائلة وحدها التي تنفتح على التجارب، لأنها تشير بخطوط عامة إلى  التصور المنفتح إلى الثقافة الإجرائية وإلى الإيديولوجية المهيمنة.كان مظفر النواب ضمن آلاف المشاركين في المظاهرات والاحتجاجات، مكنته هذه المشاركة من صقل وعيه الوطنية وتفرد حسه الثقافي والإيديولوجي. ومن ثم الكتابة بالقلم الرصاص على بدايات حياته النضالية.

عرض مقالات: