“مظفر عبد المجيد النواب تخرج في كلية الآداب قسم اللغة العربية، واشتغل مدرسًا في مدينة المسيب لسنة واحدة ثم فصل لنشاطه الوطني. أُعيد الى الخدمة بعد ثورة 14 تموز 1958 وعيّن مديراُ للنشاط الفني في وزارة التربية، ثم أخرجوه منها ونقلوه الى متوسطة الفجر في الكاظمية، حيث كنتُ – كما يكتب سعدي الحديثي- هناك مدرساّ للرسم والإنكليزية”.هذا ما يقوله زميله المناضل سعدي الحديث عنه وما اشارت الية الروائية انعام كجه جي، وما كتبه آخرون لم يذكروا أسماءهم.

يمكنك أن تفتح نافذة البيت لتستقبل الضوء والريح وترى من داخل البيت جزءاً من العالم الخارجي، فالنافذة عتبة لا داخل لها ولا خارج، شانها شأن الممر الذي يكون ناقلًا لمرور ما في الخارج إلى الداخل وما في الداخل إلى الخارج. سنفترض ان هذه النافذة التي تطل على عالمي البيت الداخلي حيث الاسرة والخارجي حيث المجتمع، نجدها في مسيرة مظفر النواب اختلاطًا بين عالمي المال والثقافة والاديولوجيا، فقد ارتبط مبكرًا بحركة ما خارج النافذة، فكان يخرج من البيت إلى المجتمع ليجد نفسه ضمن مئات ان لم اقل الآلاف من الشخصيات التي تهتف وتطالب وتنادي بالحرية والعمل والتغيير، وها هو يسير مع هذا الركب المترامي الأبعاد في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي في الكاظمية وبغداد وأينما حطت رحاله في مدن العراق، عالم متحرك ضاج بالخطاب المناقض للسلطة وسط لافتات وشعارات ومسميات كان الحزب الشيوعي هو من يقود هذه الجموع، وهو من يرسم لها هتافاتها، ويخط لافتاتها، ويعلّم مسارها، ويسمي من يقودها ومن يهتف لها ومن يتقدمها. كان مظفر النواب أحد الذين يخطون السير في شوارع بغداد ومدن اخرى هاتفًا وحاملًا  قصائده ومشاركًا، ثم سجينًا ومفصولًا سياسيًا ومغتربًا، فلا تحسب لشخصيته بين هذه الجموع الكبيرة أي حساب ذاتي، انما كان يحسب له انه مشارك وربما هاتف واحيانًا يكون قائدًا وفي مرات كثيرة يكتفي بالمشاركة العامة. كما يشير صديقه ورفيقه سعدي الحديثي “

ارتبط مظفر في هذه الورقة الاولى بكل ما في المجتمع وحياته السياسية بحيث جعلت المشاركين فيها فئات عديدة، فئة تشارك تبعًا للتعليمات، وفئة تراقب ما يحدث لتجنب الصدام و وفئة تؤلف الشعارات والقصائد والكلمات، وفئة اخيرة تواصل المسيرة من بدايتها إلى نهايتها لتعود لتدوين ما جرى في منشور او قصيدة او تحبير منشور او رسالة، كان مظفر النواب في هذه الورقة كلمة  مضيئة ضمن آلاف الكلمات؛ فالستينيات كانت الزمن الأرضي للنضال سواء كان الشارع الذي يحتضن الفعاليات السياسية أو الحلقات الثقافية او التجمعات الصغيرة، وكانت النخبة المثقفة واحدة من امتداد المظاهرات خارج أمكنتها الطبيعية الشوارع والدوائر والمعامل ليكتب عنها او ليقول ما لم تقله اللافتة واضعًا سياسة الحزب الشيوعي في صدارة مقولاته  بالرغم من معارضته لسياسة الحزب، ولكن لأنه كان الحزب الوحيد الذي لا يأخذ أوامر من جهة ما يخرج مطالبًا بحقوق الناس.والحزب الوحيد الذي لا مقرا له كي يخرج منه إلى الشارع، كان فضاء المدن فضاؤه، وكانت لا فتته تحرج من بين الازقة والغرف والأزقة. كان مظفر في هذه الورقة الحياتية اسمًا ولكنه لم يكن إلا ذلك الفرد الذي سيبرز لاحقًا من بين هذه الجموع لينفرد بالمقولة والموقف والقصيدة والثقافة، وهو ما يعني ان ابعاد حياة تلك الورقة الابتداء كانت من السعة والشمولية ما اتاحت الفرصة لعشرات المثقفين ان يمتد صوتهم داخل المظاهرات وخارجها ليصنعوا لاحقا موقفًا وطنيا خاصًا يتمثل فيه تحويل النضال الى اشكال وممارسات لا ترتبط بالشارع  وحده، بل بقدرة الشخص على صيرورة مثال وطني يقال عنه مظفر او الجواهري او بحر العلوم او فلان او فلان.

في هذه الورقة يتم تشكيل اولى ملامح الشخصية الوطنية التي لا تكتفي بالمشاركة العامة للاحتجاجات، وإنما التفرد في طروحات وطنية ميزتها تسبق تصورات الحزب او الجهة المعترضة، الملمح الثاني هذه الميزة الفردية يصاحبها دائما نشاط ذاتي يؤكدها ويضيف عليها وهو تشكيل جماعات ضغط قوية لها ثقافتها وخططها، وهو ما ميز حضور مظفر النواب في السبعينيات والثمانينيات حيث كان قطب رحى لعدد من الجماعات الثقافية والسياسية، الملمح الثالث وهو الخطاب الشعري الذي يلخص الموقف الاعتراضي بنبرة شعبية تتقبله الجماهير الامر الذي جعل مظفر يأخذ مكانته العامة كشاعر بجوار الجواهري في التأصيل ومنقذ الثقافة الشعبية من خطاباتها الدينية  والعامية لتصبح بخطاب وطني، وهذه نقطة تأسيسة للشعر الشعبي الثوري حيث ارتباط الشاعر موقفا وثقافة بقضايا الوطن وطروحات الحزب الشيوعي.

في هذه الورقة نجد مظفرمتماهيًا مع الشارع، لا تجد له ملامح خاصة به بعد، لكنه ايضًا ليس بلا ملامح، مما يعني انه المثقف الذي يكتشف نفسه بنفسه، لا يكتفي بالمشاركة بل يتطاول على وجوده العام بان يكون متميزا،وهذا ما احتوى السكيتش التخطيطي الأولي على لوحة حياته كلها. مسار هذه الورقة بين عامي 1950-1963.

الورقة الثانية: ورقة الوعي المركب  المتحولة من السكيتش العام ومن التفرد الذاتي الى الممارسة النضالية. مرحلة التنظيم والتميز، أي الكتابة بالقلم الأزرق. أي النص الذي يكتبه المثقف على وفق رؤية اديولوجية واضحة لمسيرته، وهي المرحلة التي تشكل بها مظفر النواب كمثقف عضوي فاعل..

ستكون هذه الورقة من اكثر الأوراق احتشادًا بالكلمات والمواقف، يبرز فيها دور المثقف على حساب الاديولوجيا، بالمثقف يجرد احداث زمنه وصورها ويلغي التفاصيل التي اكتسبها من مرحلة السكيتش كمحاولة لتكوين لوحته الخاصة ، أو موقفه، أوشخصيته، أو فكرته، الإنسانية  حتى لتجدها وقد ملأت كتابًا كبيرًا دون ان تلغي الفواصل الاديولوجية التي بدأت تتنافس على الشارع العراقي ومنها الايديولوجيا القومية والايديولوجية الدينية والايديولوجية الاستعمارية التي ظهر بأشكال اقتصادية وأحلاف غير معلنة. ومن بينها هزيمة حزيران 1967. كل ذلك حدث ضمن منطق العولمة والأسواق والاحتواء والهيمنة التقنية وما يسمى بالحداثة ومشروعها الجديد في العالم. ليس ثمة فواصل، في الورقة الثانية بين حياة مظفر  الشخصية ومواقفه الحزبية، بل كانت سطورها واحدة والحبر الذي يكتب بها واحدًا ولكن اللغة التعبيرية تغيرت من الفكرة الى الممارسة، لقد بدأ مظفر يكتب ممارساته اليومية شعرًا ورسمًا وغناء وسجنًا ومواقف وهروبًا وعودة للنضال ومشاركة للعامة واختفاء في الأهوار وحياة  في مدن متقلبة.   مماحكات لا حد لها مع الحزب ومواقفه. مما يعني أن مظفرًا قد انتقل  في الورقة الثانية  التي تمتد بين عامي 1963-2000 من المشاركة العامة  أي من مرحلة السكيتش إلى المشاركة الفعلية التي تجمعه مع النخبة السياسية المواجهة للسلطات،أي الذات وقد أصبحت قضية لها خصوصيتها، قضية اسمها مظفر النواب أسهمت بعض الصحف والمؤسسات السياسية الفلسطينية في تفردها وإبرازها.. وهو ما ميز مجمل حياته السياسية من أشكال الحضور وانواع الخطابات التي طبعت ورقته الثانية وميزته عن أقرانه من المثقفين. فكانت مراحل السجن في نقرة السلمان وسجن الحلة وتلك الملاحقة الطويلة بين العراق وايران حين يسجن في ايران ويسلم للعراق  أبرز محطاتها وأعمق دراميتها مما جعلها نموذجا لمثقف عضوي يبقى متأصل في نضاله بالرغم من مخالفاته الشخصية. ويلتقي خلال الورقة الثانية بصدام حسين  ثم يغدر به ولم يف بوعده تعهد به،  لإطلاق سراح  مطشر حواس،صديقه.هذه مرحلة مظفر وهو يواجه عدوه، كلاهما يعرف الآخر، وكلاهما لا يتنازل عن موقفه، يطالب مظفر صدام حسين ان يكون متصالحًا مع العراقيين، ويطالب صدام حسين مظفرا ان يكون ضمن جوقته، الاثنان يعرفان ان طريقهما مختلفتان، يعدم صدام صديقه الشيوعي المناضل  مطشر حواس، ويبتعد مظفر مغتربا في البلدان العربية متخذًا من القدس مثلا لضحايا الحكام العرب، ويجزم مظفر ان من يقتل مناضلًا يقتل قضية أيضًا، وهذا ما حدث ان صدام ساهم في قتل القضية الفلسطينية من خلال اطلاقاته الفارغة من معنى لتضع  إسرائيل ضمن قائمة التعويضات المليارية. لذلك كان مظفر قد حسم أمره في ذلك اللقاء الذي لم نرض عنه عندما سمعنا به ، قلنا ربما يغري صدام مظفرا، وقلنا ربما لم يجر بينهما أي حديث عن الوطن، وربما كنا مخطئين أو على صواب لا اجد في هذه المرحلة غير ان يكون مظفرًا وقد حسم أمره بالرحيل عن العراق. ترافق هذا الصعود مع بلوغه سن الخمسين او نحو ذلك، مما يعني انه قد يتجاوز ماقاله حول بلوغ الحزب الشيوعي سن الثلاثين، من انه اصبح رجلا وعليه مهمة ان يكون في هذا الحزب ويحول نداءه لا يفلان عمر وتعدى الثلاثين إلى عمل يقوم هو به،  فالثلاثون عاما تعني بداية الاستقلال والانفصال عن ارومة الحزب العامة والبدء بتدشين مرحلة الوجد والكينونة الخاصة به، لذلك ردد ويردد الكثير من الشيوعين اغنيته عمر وتعدى الثلاثين لا يافلان، والمخاطب هنا هو قيادة الحزب، مما يعني الوعي بدور اخر عليه ان يقوم به مادام الزمن يأكل تجربة  الحزب.

نعيد مفردة ربما لم يلتفت إليه ان ميلاد مظفر كان عام 1934 لميلاد الحزب الشيوعي كان أيضا عام 1934، هذه المزدوجة الثانية جعلت مظفر يفكر باستقلالية خاصة ماداما قد ولدا سويا ضمن مناخ سياسي عام، أقول هذه المفردة شكلت في الورقة الثانية ثيمة ذاتية حملته مواقف قد لا تكون دقيقة خاصة في مجالسه الشخصية وما رافقه من شخصيات عربية لا تكن للحزب الشيوعي تلك المودة.

تغتني الورقة الثانية  أيضًا التي اسميها الورقة المكتوبة بالحبر الأحمر، بتجربة مناضلين كفء رمموا أنفسهم ورمموا صورة الحزب التي اهتزت بعد غزوا الجراد البعثي ، وكان الترميم هذه المرة مؤلمًا حيث بدا الانشقاق المؤلم، مما جعل الحزب اضعف مما كان. في هذه الورقة تأمل مظفر نفسه، وان اعلن هواه مع القيادة المركزية لكن صوته الشعبي مع الحزب بكل شعابه وتشقاقته، وهو الأمر الذي احس به الكثير من المنشقين عندما لم يجدوا صدى لوجودهم في حياة الجماهير. ويمكن اطلاق صفة الجماعات الثرثارة على بعض منهم حينما  كانوا يبدلون العمل بالاحلام، لانهم كانوا تائهين في سماء الأفكار المجردة بالرغم من العمل في الاهوار وفي السجون.  على العكس من مظفر فقد كان يقرن رأيه وموقفه بالعمل. لان فكرة الاديولوجيا كانت مهيمنة على فكرة الثقافة، وهو ما حدث لبعضهم حينما التقوا مع البعث في موقف كان التلفزيون العراقي يعرض جثثهم وهم أحياء. ولم يكن الجانب الاخر اعني اللجنة المركزية بعيدة عن اضطراب المواقف حين لمحو او عملوا خط اب وبدت الأمور كما لو ان الحزب سيضيع نضاله او تباع مواقفه، وكلا الموقفين يعودان الى تغليب الإيديولوجيا على الثقافة. وما مرحلة الجبهة الوطنية والجبهة الوطنية” على رأي أبو كاطع، الا خلاصة لهذه المواقف المضطربة التي خلقها انشقاق الحزب بطرفيه. “ الحقيقة لا تظهر على سطح الأشياء غالبًا ما تكون مختفية في باطن الأشياء والظواهر، في العلاقات الباطنية التي تحدد من خلالها تلك الظواهر، تلك العلاقات التي ليست موضوعًا الوصف الحسي، بل موضوع للادراك والتحليل العقليين”() سوسيولوجيا الثقافة والمثقفين ص 41. مما يعني غياب العلم والثقافة وبروز الاديولوجيا  أي الحركة السطحية للظواهر.

عرض مقالات: