شكلت دعوة افلاطون في جمهوريته (الفضيلة هي المعرفة) ابجديات النظريات السياسية التي توسع فيها الفكر السياسي على مدى قرون عديدة، فالفرد الذي تتوفر له المعرفة، سواء أكان فيلسوفاً أو معلماً أو عالماً ينبغي أن يتمكن من الاستحواذ على سلطة نافذة في الحكومة وأن يكون مؤهله الوحيد لتلك السلطة هو المعرفة. فدعوة (أفلاطون) في تنصيب الفيلسوف على رأس السلطة السياسية في الدول ناجمة عن اعتقاده بأن أفضل أنواع الحكم هو حكم الحكيم أو (الفيلسوف). نحن اذن امام المثقف والسياسة ولاسيما في مجتمعاتنا ومرحلة التحولات النوعية الإجتماعية والإقتصادية والثقافية، التي مازالت  تعيش حالات التخبط  الذي لايقود الى وضع الاسس الصحيحة ومازالت مجتمعاتنا حقل تجارب تخضع لمسميات تفتقر الى حلول واقعية ومازالت السياسة هي الوسيلة والغاية في طموحات الكثير من الذين يعتقدون أنهم الأفضل في تبوأ مراكز السلطة. فنحن لسنا امام مثقف فرانز فانون ((الذي يمثل المثقف الذي هضم ثقافة المستعمر، ومن ثم مرحلة القلق التي يمر بها، التي تغريه بالعودة إلى ذاته، وأخيراً مرحلة المعركة، وهي المرحلة التي يستحيل فيها المثقف إلى موقظ للشعب، فينتج أدباً ثورياً، ويسعى إلى تغيير الواقع)) فلم تعد تسمية (دول العالم الثالث) تتناقلها و سائل الأعلام في ستينيات  القرن الماضي واستمرت عقودا طويلة، ولكن دولنا مازالت تحافط على تسمية (الدول المتخلفة). ويبرز هنا السؤال هل يمكن للمثقف ان يكون حاضراً ؟وما هو حجم حضوردوره في مجتمعه ؟وهل هناك مجالات واسعة تنفتح أمام المثقف إذا ما توفرت له الجرأة، وهي جرأة غالباً ماتكلفه غالياً اذا حاول  أن يوجّه السياق العام لمجتمعه بصورة قدرية ؟ ومتى يمكن ان يكون مهمشاً يعيش على هامش مجتمعه؟ نحن لا نبحث عن مثقف (فيلسوف أفلاطون) الذي يترأس السلطة في مجتمعه بقدر ما نبحث عن مثقف يسهم بادوار تخدم مجتمعه ولا نريد مثقفاً دائم الشكوى على أنه مهمش. ففي واقع الأمر ان مصدر التهميش وعدم الحضور يكمن في موقفين يجسدهما  (المجتمع  والسلطة) فاذا كان المتنبي وكما قال عنه طه حسين ((كانت السياسة مبغضة للمتنبي في العراق))، فقد جمع المتنبي عداوة السلطة وعداوة متزلفي السلطة، فليس امام المتنبي وكما يقول طه حسين عنه ((فليس له إلا أن يعود إلى الكوفة ويستقبل أمره فيها بالروية والتفكير ؛ فإما أن يقنع بالحياة الهادئة وإما أن يجد طريقاً إلى الصلح بينه وبين السياسة في بغداد.)) وهذا الطرح يمثل الموقف العام لمثقفي أجيال تاريخية قبل وبعد المتنبي أما ان يهادن المثقف المجتمع اذا غضب عليه أو يهادن المثقف السلطة اذا غضبت عليه. فالمثقف يمشي بين الغام المجتمع او الغام السلطة.  هنا لا بد ان نقول ان المثقف الذي لا يستطيع المهادنة يكتب عليه التهميش بكل ابعاده. ولنا في مثال على الوردي الذي ينقل لنا  كلام نقاده من المثقفين (بكل حرفيته) الذين حاولوا النيل من افكاره فقد قالوا عنه ((علي الوردي لا يستطيع ان يضيف جديدا الى تفكير المثقف ولكنه يستطيع ان يخاتل تفكير العامة بشعبية الاسلوب ويخاتله بشعبية الموضوع وهذا هو السر في اقبال الناس على قراءته) فيقول علي الوردي ((ان صاحب الرأي الذي لا يكتفي بشتمي وحدي بل هو يشتم الذين يقرأون كتبي ايضاً)).فنحن امام تهميش مجتمعي يمثله المثقف للمثقف وهذا اخطر انواع التهميش فاذا كان على الوردي بشجاعة افكاره استطاع ان يقف امام عواصف تهميشه، فهناك الكثير من المثقفين من ينحني امام تهميش مثقفي جيله وربما ينتهي ويحرم المجتمع من افكاره فأثار الجناية التي يقترفها المثقفون ضد المثقف  لا تقتصر على مثقف مهمش واحد وانما قد تمتد الى الكثيرين لان وسائل خلق الأستيعاب بيد (ثلة) تحافظ على (مقدس الجماعة) من المثقفين،وطرح الأفكار الجريئة تهدد وجودهم فيتفقون على محاربة العقل الذي لايهادن افكارهم العقيمة التي تنحصر في مجالات ومصطلحات بعيدة عن واقع الحياة فمجالات النقد والنشر والحضور في الفعاليات الثقافية تقتصر على من يقسم يمين الولاء على (مقدس الجماعة).  فهذه الفئة تحارب مثقف مصطفى جمال الدين الذي تحدث عنه وهو ((الذي يقف مع الجميع ويختلف مع الجميع في حدود تسمح له بالأحتفاظ بما يمليه عليه وجدانه الادبي من جهة والتزامه الفكري والسياسي (الوطني) من جهة أخرى))، فلم يعد الخلاف كما كان سابقاً على مسائل جوهرية مهمة (القومية) او(الوطنية) او وسائل التحول الديمقراطي، فالأختلاف يكون على هوامش لاتحتل أهمية في مشاكل ثقافية او أجتماعيىة مهمة، فالأختلاف يكون على كل ما هو جديد يهدد المألوف في قضايا (ما بعد) ولا نعرف  متى نصل الى (ما بعد) فكل شأن من شؤون المعرفة التي لها صلة وثيقة بالمجتمع اصبحت بعيدة ودخلنا في مراحل (التنظير) دون الوصول الى حلول واقعية حتى المصطلحات المستخدمة باتت مصطلحات (نقلية) يحاولون فرضها بلا هوان. كما أصبحت اللغة الادبية لغة تهديد ووعيد حول مصطلحات لم تصل هي يوما الى حد اليقين. اما تهميش المثقف من قبل السلطة فيتخذ عدة صور منها أحدى فئات مثقفي سماح ادريس الذي يطلق عليه (المثقف الُمسَتعْدَي) حيث تناوئ السلطة المثقف الذي ترى أنه وقف يوماً ما ضدها، على رغم مما يبديه من استعداد للتعاون معها، ولكنها تتجاهل هذه المبادرات منه. وهنا يستحضر سماح ادريس شخصية (عيسى) بطل رواية (السمان والخريف لنجيب محفوظ) الذي يعجب بثورة 1952 بعد تحقيق انجازات عديدة منها(تأميم قناة السويس) فيحاول العودة الى مساندة الثورة بعد ابعاده كونه كان من مؤيدي النظام السابق ويهلهل له. إلا ان يرُفض من قبل (السلطة الثورية) على الرغم من انه كان جزء من منظومة النظام السابق وهناك العدد الكبير من امثله تم استيعابه من قبل (السلطة الثورية).  فالتهميش سيخلق مثقف يحتاج اما (الرشوة او التملق) للولوج في المؤسسات الثقافية للدولة (الثورية الجديدة).ان المثقف الذي يبحث عن الحضور ويتجسد هذا الحضور في نتاجه المعرفي أو في المشاركة في فعاليات ثقافية متعددة وهنا نتذكر جوليان بوندا حين تناول أسباب البحث عن الحضور السياسي عند المثقفين  الذي يتجسد في البحث عن السلطة والاسهام فيها، فيتجلى في سببين هما: تحقيق المكاسب والأمتيازات المادية، و الرغبة في التميز عن الغير. وهذه هي مشاعر واقعية لا يمكن انكارها، فالمثقف ينقل هذه الرغبات الذاتية الى رغبات الجماعة التي ينتمي إليها لتتسع هذه الرغبات وتكون رغبات وطنية، ومزايا المكتسبات المادية تصبح مكتسبات مادية لوطنه وعلى وفق توظيف الرغبات الذاتية الى رغبات وطنية، فهي (واقعية مقدسة). يطرح جوليان بندا مفهوم المثقفين ((أولئك الذين لايسعون وراء المصالح والمكاسب، بل يجدون سعادتهم في ممارسة فن أو مزاولة علم أو البحث في نظريات ما وراء الطبيعة وتتلخص سعادتهم في الترفع عن ملذات الحياة))، ولكن يجد(بندا)هذا المفهوم بدأ يتغير منذ نهاية القرن التاسع عشر فقد أصبح دور المثقف يشرع في ممارسة لعبة المشاعر السياسية التي مرت معنا وهي (تحقيق المكاسب والأمتيازات المادية، و الرغبة في التميز عن الغير.) في ضوء هذه المشاعر هل يمكن العثور على (فيلسوف افلاطون) وتنصيبه على رأس السلطة السياسية فاصبح المثقف لايختلف عن (العموم) فتحقيق المكاسب والأمتيازات المادية أصبحت أشد طلباً من عموم الناس. اما مسألة (التهميش) التي يتناقلها المثقف فلا يمكن أن يتوقع المثقف أن يطرق السياسي بابه ليأخذ رأيه بقرار أو ليتولى مناصب وزارية؟ وبهذه الصورة ينتفي وجه التهميش، وهو يُظهر يومياً صيغ (التعفف) من السياسة أو الدعوة إلى فصل عالم الثقافة عن عالم السياسة وإلى عدم (تسييس) الثقافة. وبهذا فإنّ عبارة (التهميش) عبارة لا تليق بالمثقف (الحقيقي)، فالمجتمع العراقي قادر على تمييز من هو المثقف الذي يستحق أن يكون في قلوبهم ويحظى بالإحترام حتى ولو كان صامتاً، فالصمت يمكن  أنْ يُفهم ويترجم بلغات عديدة ومن هو خارج حسابات تقديرهم واعتزازهم حتى لو صرخ بأعلى الأصوات وتبقى مسؤولية المثقف في تحديد أطر مشاركته أنها ليست فقط مرهونة بحجم مشاركته في العمل السياسي، وإنّما في علمية تحليلاته وعمق مساهمته في المجالات (الثقافية – الإجتماعية) التي تهم المجتمع. وهنا نستحضر وجهة نظر (محمود أمين العالم) الذي يؤكد على الرغم من ان السلطة جهازاً مركزياً، لكنها تشمل جميع الهياكل السياسية والإقتصادية والإجتماعية والتعليمية. وطبقاً لوجهة النظر هذه فبإمكان المثقف العمل داخل (السلطة – المجتمع) الذي يحقق فائدة اعظم للمجتمع.

عرض مقالات: