اخر الاخبار

يتخذ الشاعر ميثم الحربي في مجموعته (لا شيء سوى الطريق) الصادرة عن اتحاد أدباء العراق- بغداد 2020 كموضوعة أو مفردة تتمركز حولها نصوص المجموعة كلها ويجعل (الطريق) عنواناً لكلّ نص مع تغيير الدلالة والفضاء والتوجّه التعبيري وهذا يوحي بأنَّ المجموعة بأسرها تبدو قصيدة طويلة مقطّعة إلى نصوص قصيرة (ومضات شعرية) أو متوالية شعرية، تتناول كلّ ومضة موضوعاً حياتياً واستعارة وجودية تمثل فضاءات واسعة وارتحالات عميقة يكون الطريق هو الفكرة أو الدلالة المركزية التي تنطلق منها رؤية الشاعر للعالم وتناقضاته وفق معالجة تجعل (الثابت) متحوّلاً والمتحول (ثابتاً) كطريقة ذهنية تكشف أنَّ الحياة والإنسان والعالم ما هي إلاّ ما توحيه مفردة (الطريق) فالحياة طريق والموت طريق والنسيان طريق والمخاوف طريق والأضداد طريق والنكاية طريق... يمثّل الطريق أساس رؤية رئيسة تحاول اختزال الفكرة الكبرى وجعلها طريقاً لفهم الطريق والتحوّلات وتناسل الفضاءات، فأصبحت جميع النصوص تحمل عنوان الطريق مع إضافة مدلول جديد، هذا يختزل رؤية الشاعر للعالم بوصفه طريقاً وما الحياة وتداعياتها سوى طرق تتلاقى وتفترق ولكلّ هاجس طريق وكلّ طريق هاجس.

هذه الاختزالية وتمركز المفردة ليس ترفاً فنيّاً أو تزويقاً لغوياً بل هي نظرة عميقة واختزال الحياة بمفردة تمتلك السعة واستشراق الوقائع والتحولات ويبرهن الشاعر بيقين تجلّى على شكل (نفي) لتوكيد هذه الحقيقة (لا شيء سوى الطريق) ويبدو العنوان فضاءً يحمل دلالات وفضاءات ضمنيّة ويكشف عن معاني متعددة تحفل بها النّصوص أفقياً وعمودياً ولم يكن العنوان كاشفاً أو توضيحياً بل تحوّل إلى إشارة تتعدد وتحاول مسح التداعيات والتوغل في أعماق الظواهر.

                      هذا التوظيف الإطاري اعتمد على وسائل وتقنيات تعبيرية نشعر إزاءها أنَّ الشاعر جعل من نصوصه وهي تتوهج داخل هذا التأطير وقد تحوّلت إلى تعريفات تقارب من التجريد والاختزال، وتنوّع الاستعارات، وتبدو الاستعارة مثل (الهاوية) التي تمسك كلّ الطرق:

هكذا أرادت الكلمات وتريد: ظهرت/ اختفت/   ارتحلت

لتنجو من هاوية الاستعارة!.. (ص20)

تبدو النصوص مثل رؤية مركزية تناسلت وتحولت إلى متوالية من (الرؤى) وقد وظفها الشاعر في منظومة اختزالية فكانت مضات أو شفرات أو برقيات سريعة اقتربت كثيراً من القصيدة القصيرة جدّاً أو فن (الهايكو)، في نص (طريق الشاطئ):

الشاطئ القديم وحده/ بعربته المفتوحة الأزرار

ينقل كلّ هذه الفضّة/    إلى أين؟

نجد الاختزال والاستعارة والدلالة بألفاظ قليلة يشبه أسلوب (البرقيّة):

والخذلان/ يسحب/ جفنيك/    إلى/ المهوى...   (ص30)

وفي (طريق إلى صورة تذكاريّة) نجد الاستعارة والدلالة يتسع فيها المعنى وتوحي بدائرة الطريق والدورانية والتكرار، فالحقيقة تبقى مثل (طريق) من الصّعب العثور عليه فهي سرّ التحوّل وتحوّل الأسرار:

الذين ظلّوا يرغبون تعقّب الحقيقة    

 الذين ظلّوا يرغبون التعقِّب

وتتلمّس القيمة الكبيرة لتكرار جملة (الذين ظلوا) وبدلالة الفعل (ظل) وهي توحي بديمومة البحث عن الحقيقة، ولم يذكر مفردة (الطريق) لكنّها شاخصة بقرينة ذهنية ونجد قيمة الاختزال لفكرة كبيرة وكأنّ الشاعر يبوح لنا بحقيقة معرفية مفادها أنَّ فهم الحقيقة هي في أقصر الطرق إليها فالحقيقة لا تحتمل الثرثرة اللّفظية والاستطراد الفائض، ولابدّ من الإشارة الى أن الشاعر فاضل العزاوي سمّى هذا النمط بـ(القصيدة التي تأكل نفسها)، تبدأ بسطر وتنتهي بمفردة واحدة من السطر نفسه، وهي من تجريبه الستيني، ولتعميق الدلالة المركزية لمفردة (الطريق) بأنّه الممر الأقصر لنيل الفكرة الأعمق وإلاّ لماذا أُطلق عليه (الطريق)؟.

النصوص محكومة بدلالتين كبرى وصغرى.. الأولى من خلال هيمنة مفردة (الطريق) ومعانيها الفلسفيّة والثانية (الانفتاح) على تعريف كل طريق وتوضيح نهايته (تعدد الغايات والتداعيات)، هذه التوليفة الدلالية – التركيبية منحت النصوص مسحة من التجريد والمنحى الذهني مؤطّراً بظلال من الغموض الشفيف والابتعاد عن المباشرة وتقريرية المفردة وانفتاح النصوص على مساحة غير مبالغ فيها باتّجاه الإيحاء والتأويل وتعدّد المعاني والصّور والدلالات حتّى يصبح (الطريق) نفسه وقد تناسل وتوالد باتجاه التعدد . يقول في نص (طريق المسوّدة) :

ماذا يعني أن تعدّل الصورة/   أن تحذف أحزاناً عالقة، وتضيف/   أخرى:

أنْ تكتب أفكاراً وتحذف أحاسيس/ أن تكتب أحاسيس وتحذف أفكاراً

ظواهر لافتة تتكرر في النصوص كتوظيف (الدلالة) ومفهوم (الدليل) كاستثمار لبيئة كل طريق، كما في نص (دليل الطريق):

دليلنا على القتيل سحابة/   وعلى القاتل علامة (×)

نلحظ ظاهرة (التكرار) كوسيلة لتوكيد المعنى في ثنائية (الأبواب- الريح) وهو من النصوص المهمة والثريّة في المجموعة موسوماً بـ(طريق الريح والأبواب):

الريح والأبواب فكرة الصفير،/  الرّيح والأبواب ترنيمة عن الظلال

للريح والأبواب قبضة مصرّة،/ الريح والأبوب يملكان النهاية

للريح والأبواب أفق من الفخاخ/ الريح والأبواب: عندما تشيخ الندوب

الشاعر مولع بتوظيف (الثنائيات) وصولاً إلى رؤية تحفل بالمقارنة وعمق الدلالة، في نص (طريق المحو) :

ثانية يذوب الحلو في المرّ:/ الشاي في الأحاديث،

العيون في المنديل،/ الخيانة في الظّهر

ويتم المزاوجة بين الثنائيات والمفارقة كما في نص (طريق الأرائك):

فجأة يجلس المحو على كلماته:/ دفتر مؤكّد نطويه

أو نافذة نغلقها../ كلٌّ يواصل الجلوس على خدّه:

الشحاذ على الرّصيف،/  السحر على الساحر

(شِئنا) تجلس على (أَبَيْنا)/ ويجلس الضحك على قفاه.. (ص35)

هنا ترحيل المفردات والتلاعب بالصور لخلق مفارقة عبر مجازات يخلخل فيها الشاعر، العلائق التقليديّة باتّجاه إحالات جديدة، وتحفل معظم النصوص بتوظيف أسلوب (الضربة الأخيرة) أو ما يسمّى بالسرد (لحظة التنوير) أو النهاية- الومضة :

صريحاً كان مثل مرآة:                 / وصدراً رحباً كمنفضة

يستقلّ قطاراً إلى الجهة الخطأ../ والفصول ترمي على أكتافه فضلاتها..

وقد تحمل النهاية فكرة مجازية أو رؤية أو سؤال مباغت يعمّق المعنى في النّص وينقله إلى فضاء متناسل جديد إذ يجعل الشاعر الترميز فاعلاً عبر نهاية غير متوقّعة:

ضدّ يظهر حسن أخيه/   بلا نهاية

عيون مفتوحة/    ترى عيوناً مسدودة

ونرى متوالية الثنائيات المتضادة بتأطير اختزالي ونهاية تشبه (إضاءة) مباغتة كما نتلمس في أكثر من نص:

وسط كل صحراء تقف الواحة.../ وسط الغابة تتورم الوسيلة..

وسط الحقيبة يتجعد المسافر../ وسط البعير تقصمنا القشة..

ونجد كثافة الدلالة هي نوع من الاغتراب مع الذات والآخر، وغربة (الثنائيات) أيضاً، وإن ثمّة اغتراباً ضمنياً في مجمل ومضات الوجود وتأمّلاته والصراع الذي يكشف هذه التّوجهات كما في نصوص كثيرة :

(قبل ذيول) زهرة القلب،/ (قبل انطفاء) اللهب في الروح،

(قبل مشيب) كلّ الخصلات السود/ أقتل الأقواس وما فيها ..!

يسعى ميثم الحربي إلى محاولة لتأصيل نصوصه باتجاه المغايرة والتوغّل في مساحة جديدة من أجل توظيف وسائل وتوجهّات تعبيريّة على وفق هاجس متمركز لمجاوزة ما هو سائد وتقليدي نمطي مما جعل نصوصه تتسم بجمالية الصّور والتكثيف وعمق الرؤية من دون ان يحفل كثيراً بالواقع واليومي بقدر اهتمامه بالتحليق وصولاً إلى رؤى تجريدية دالة، (ميثم) شاعر واعد يمتلك طاقة إبداعية تستحق الإشارة.

عرض مقالات: