عند تناول مفهوم الصراع في بحثها (الأدب السومري) بوصفه حالة طبيعية يخوضه الفرد (البطل) تجد الأستاذة بديعة امين ان مفهوم الصراع الذي يتمحور حول الأحساس بتأزم باطني ناشيءعن تناقض غيرقابل للمواءمة بين ارادة ومعتقدات ورغبات الفرد (البطل) الأنسان و أرادات ومعتقدات ورغبات الجانب الأخر الذي قد يكون القدر أو الألهة أو المجتمع بما يمثله من (مؤسسات وقوانين) لها من القدسية؛ يجعلها امرا لا راد له. فهناك مظاهر متناقضة في الكون الواسع الذي قُدر على الأنسان أن يعيش فيه، هناك النقيضان الجليلان: الليل والنهار؛ وهناك القيظ والبرد اللذان يكشفان عن نفسيهما في مواسم متناوبة : الصيف والشتاء. ويستطيع (الفرد السومري) ان يتصور ان ثمة تناقضا قائما في ما بين بعض الألهة، وبين الألهة والشياطين، بين الأرض والماء...، وان ماتسببه الرياح العاتية والفيضانات المدمرة من عنف وخراب يلحق به الضرر، لكنه لم يكن يستطيع ان يتصور هذا الفرد أكثر من كائن ضئيل لاقدرة له على مجابهة الكون بكل المظاهر الجبارة من زوابع ورعد وفيضانات ورياح لافحة...وعلى الالرغم من أنه وجُد في بيئة يسود العنف مظاهرها المختلفة، فان مايقوم به الفرد لم يكن يتخذ مفهوم أو طابع الصراع ضد المظاهر الكونية وأنما كان حسب أعتقاده عملاً تكميليا لتلك المظاهر.فثمة صراع لابد ان يكون موجودا في هذا الكون الواسع،وهو مستمد بشكل جذري من العنف والتناقض الموجودين في المظاهر الطبيعية...في تقلب الفصول وفي العواصف وفي حركة الاجرام الطبيعية. فكل أنواع الصراع هو جزء من المنظومة الحياتية للأنسان، قد يختلف البعض في تعريفه لمفهوم (الصراع) فنحن لانريد الدخول في متاهة المفاهيم النظرية لمظهر من مظاهر الصراع وهي (الأنتفاضة) ولنقف أمام مفهوم أولي للأنتفاضة وهذا المفهوم ليس حديثا،ولكنه كان من نتاج المظاهر الشعبية للأنتفاضات في ثلاثينيات القرن الماضي لـ (اميليو لوسو) فالأنتفاضة والحرب تعبيران متماثلان لمعادلات متشابهة  فعندما لا يكون بوسع أحكام القانون الدولي العام تسوية العلاقات بين دولتين بشكل طبيعي، نكون إزاء الحرب. وعندما لا يكون بوسع القوانين الداخلية، التي قد تكون غير مقبولة  في احتواء الصراع السياسي نكون إزاء الأنتفاضة. وتولد من أحشاء الحرب والأنتفاضة قوانين جديدة. فالأنتفاضة هي المرحلة الأساسية من الدورة السياسية التي يطلق عليها أسم الثورة، فالثورة هي الكل والأنتفاضة هي الجزء. اذا اردنا ان نذكر العراق وانتفاضته في تشرين، فالعراق حالة فريدة وبات الصراع ليس جزء من الطبيعة أومكملاً لها، بل كان الصراع هو الاساس الحياتي لتاريخه المعاصر فخاض حروباً وعاش انتفاضات ولنقتصر في حديثنا على فاتحة القرن الحالي، فالتغييرالذي حدث في 9 نيسان 2003 وكما يذكر فالح عبد الجبار أن الذي حصل في العراق متوقعاً وذلك لأنَّ العراق عاش الخصائص الاتية: بسيطرة النظام الشمولي مثل الإقتصادالمركزي الموجه والحزب الواحد وهيمنة الدولة على المجالين العام والخاص. وإنَّ العراق دولة ريعية نفطية حيث يشكل الريع النفطي الإقتصاد السياسي للنظام التسلطي شديد المركزية. كما أنّ الريعية النفطية هي الإقتصاد السياسي لنظام التبعية الشخصية والنمو اللاعقلاني للجهاز البيروقراطي. وإنَّ العراق يمثّل حالةَ دولة منهارة ذات مجتمع متعدد الأعراق والثقافات وقوى اجتماعية قائمة على أساس تنظيم اجتماعي حديث وتقليدي ومختلط.

وبعد قرابة عقدين من التغيير السياسي، حدثت أنتفاضة تشرين الأول 2019  ونجد من الضروري ان نحدد العوامل  الواقعية لهذه الأنتفاضة وهي:

1 - العامل البشري ويضم الأجيال الأتية:

أ‌- الجيل الاول لهذه الأنتفاضة هم ابناء الحرب العراقية –الأيرانية (1980-1988) فضلاً عن ابناء الإنهيار التام لسياسات السلطة  (الشمولية) اللاعقلانية إثر الاحتلال العراقي (للكويت) ودخوله حرباً خاسرة مدمرة (1991)، وفرض الحصار على العراق بموجب القرار (661) في (6/8/1990) ويمكن اعتبار المدّة ما بين(1991-2003) حرباً على الشعب العراقي لأنه الخاسر الوحيد من جميع سياسات السلطة التي سّهلت للقوى الدولية التمكن من السيطرة على العراق واحتلاله.

ب‌- الجيل الثاني هم ابناء السياسة المتعثرة للعملية السياسية بعد 9 نيسان 2003الذي عايش فشل العملية السياسية وذلك بسبب قصور (الحياة الدستورية والنيابية)،فضلأ عن الأثارات الطائفية التي بشرت بها سلسلة مقالات جريدة (الثورة) التي ضمت سبع مقالات متسلسلة للمدة من 3 نيسان ولغاية 14نيسان/1991 وبداية مرحلة جديدة لمفاهيم اجتماعية، ودينية، وثقافية كانت خافيةً عن الظهور بشكلٍ مباشر وعلني، تجاه الاغلبية في المجتمع العراقي. وقد اتخذت المقالات موضوع الإنتفاضة في الجنوب والشمال منطلقاً أساسياً في الحط من القيم الدينية والإجتماعية والثقافية لأغلبية الشعب العراقي. وقد كان المجتمع العراقي بعد 2003 ضحية لسياسات دول خارجية تبنت هذه الأثارات المقيتة التي حطمت جيل شبابي روحياً وجسدياً وابكت عيون جميع العراقيين.

2 - العامل السياسي: تعدد مصادر السلطة في المجتمع (عشائرية و حزبية) مما عرقل تطبيق وسائل أحكام الدستور (سيادة حكم القانون) و(التبادل السلمي للسلطة) و (الانتخابات هي الوسيلة الديمقراطية لإسناد السلطة). فكان هذا العامل من العوامل الاساسية للأنتفاضة.

3 - عامل الفساد: تجد هيئة النزاهة في تقاريرها السنوية ان من اسباب الفساد سوء صياغة القوانين واللوائح المنظمة للعمل وغموض النصوص القانونية وإتساع حجم البيروقراطية في الأجهزة الحكومية،وعدم تناسب الصلاحيات الممنوحة للعاملين مع المسؤوليات،والإختيار غير السليم للعاملين وضعف الأجهزة الرقابية وعدم إستغلالها، وضعف العقوبات التأديبية بحق العاملين المخالفين.

4 - سيادة مفاهيم خاطئة عن الأنتفاضة وموقفها من (الحرية – الدين –الأخلاق - الأسرة...) لضرب الأنتفاضة وعزلها عن الشعب ورسم صور عن المنتفضين تفتقر الى الموضوعية، وإعمام الحالات الفردية بصيغة عمومية. وهذا يعود لغياب فئة المثقفين الذين يقع على عاتقهم رسم البعد الفكري للأنتفاضة، فكل الحركات الجماهرية اساسها عقائد مختلفة (سياسية – اجتماعية) يصنعها المثقف.

اما عوامل الطموح التي ينبغي أن تعمل عليها القوى الفاعلة في الدولة وحصر هذه القوى بـ (القوى الشرعية) فيما نجد القوى المدنية محرومة من المشاركة في وضع  صيغ الطموح الذي يمكن عن طريقه تأطير عملها بمنظمات مدنية مستقلة عن (التدخل الخارجي او الداخلي)، كما ان للصحافة الوطنية الحرة وكتّابها الدور الرئيس في صياغة خطوات الطموح وهذه العوامل هي:

1 - الأعتراف ان الانتفاضات حق طبيعي وعلى وفق ما طرحتة الأستاذة بديعة أمين  على أنها احدى مظاهر الصراع،وجزء من حيوية المجتمع بوجود تأزم ناشيءعن تناقض غيرقابل للمواءمة بين ارادة ومعتقدات ورغبات الفرد وأرادات ومعتقدات ورغبات الجانب الأخر(السلطة بجميع مؤسساتها الدستورية والنيابية) أن هذا الأعتراف يحتاج الى أعادة بناء الثقافة السياسية للمجتمع، والأيمان ان الحفاظ على النظام القائم بطرق قسرية لا يشكل حلاً للمشكلات وقد عرف العراق نهاية النظام الشمولي وكيف قاد الى أحتلال ومشكلات لاتعد ولاتحصى.

2 - تكوين روح المواطنة غالباً ماتشير مؤلفات علم الأجتماع السياسي الى ان فاعلية العوامل(الأقتصادية والأجتماعية والسياسية) يمكن تحقيقها من خلال تحسين الوضع الأقتصادي الذي يقود الى زيادة وسائل الاستهلاك و التمكن من شراء السلع والخدمات.اما وسائل الإنتاج فهي المشاركة في الأنشطة ذات القيمة الأقتصادية والإجتماعية، الذي يقود الى المشاركة السياسية من خلال الأشتراك في عملية صنع القرار على المستوى المحلي والوطني ليس بالضروة بصيغة مباشرة، وانما من خلال ممثلي الشعب (المناسب منهم). والتفاعل الإجتماعي بالتكامل مع الأسرة، والأصدقاء والمجتمع المحلي كل هذه العوامل تقود الى تكوين روح المواطنة.

3 - يتحمل المثقف اتخاذ الدور المناسب الذي ينسجم مع عظمة الحدث السياسي الذي لايقتصر على (الأنتفاضة) فقط بل على أحداث سياسية أخرى كون ان السياسة هي القاسم المشترك مع جميع الأبعاد (الأقتصادية – الأجتماعية) فيجد جوليان بندا عند تفاعل المثقف مع الاحداث السياسية ضرورة التميز بين ثلاثة مواقف وهي : الموقف الذي يتمثل في الأنغماس بالحدث السياسي وتبنيه بصورة تصل الى التعصب ورفض الأراء التي يختلف معها واما توظيف موهبته في خدمة الحدث السياسي وفي هذه الحالة نحن نقف امام مثقف يعمل على أثارة المشاعر السياسية لدى عموم الناس ضمن مواقف (المحاباة والتحيز) لقضية سياسية معينة وخدمة لفكر سياسي معين مع المحاباة والتحيز. واما ان يكون تفاعل المثقف وخدمة الحدث السياسي على حساب (المعتقد الفكري) للمثقف فتتغير مواقفهم على وفق الحدث السياسي، فيعملون على  دعم الأنظمة الأستبدادية والسير على ما ترسمه السلطة من منهج (فكري –ايدولوجي) لذا اطلق جوليان بندا على المثقف ضمن هذه المواقف بـ(خيانة المثقفين)، والخيانة هنا هي خيانة الوطن أولاً واخيراً فنحن بحاجة الى مثقف يتجاوز المواقف الثلاثة.

4 - يبقى التدوين التاريخي لأحداث (الأنتفاضة) الذي تتجاذبه جهات متعددة بعيدة عن التخصص ولايقتصر هذا التجاذب على موضوع الأنتفاضة بل جميع الأحداث التي مرت على العراق منذ 2003، فأثار  د. صالح احمد العلي مسألة مهمة عند تدوين التاريخ وهي (ما هو معيار الأهمية ؟ وأي الخصائص توفرت فيه حتى أصبح مهماً ؟وهل نحكم على اهمية الأحداث في عصرها أم في عصرنا ؟) نحن بحاجة الى (مركز بحثي وطني) تتولاه الدولة لتدوين جميع الأحداث منذ 9 نيسان 2003، فالوثائق التي نجدها اليوم عديمة الأهمية لقربنا من أحداثها، أنها تاريخ الحاضر للمستقبل.

عرض مقالات: