بعيداً عن السياسة قريباً من الأدب ومع ما تتناقله وسائل الأعلام بخصوص (قانون التجنيد الإجباري) وطرحه امام مجلس النواب رجعت بي الذاكرة الى منهاج أحد سنيّ دراستي (اللغة الأنكليزية) المقررة وأستاذ الادب الأنكليزي المرحوم (رافي سركسيان) الذي درّس لنا مسرحية (الأم شجاعة وأبناؤها / بريشت) أو بالأحرى قام بتجسيد جميع شخصيات المسرحية وحواراتها بـ (حركة وتنويعات صوتية متعددة)، فهو لايختلف عما جسدته الفنانة (عواطف السلمان) في مسرحية (النهضة / لعباس الحربي) التي تحّملت اداء مسرحية بشخصية واحدة (مونودراما)، وادت ببراعة وقدرة كبيرة مجموعة شخصيات وبأصوات مختلفة أعتماداً على أسلوب أخراجي مبتكرلكاتب النص (عباس الحربي)،وعلى الرغم من تنوع شخصيات مسرحية (الأم شجاعة) إلا أن تدريسها  (تجسيدها) جعلتني اعدها (مونودراما) مسرحية (الشخصية الواحدة) وهذا حال جميع المسرحيات التي يقوم بتدريسها الأساتذة البارعين من محبي الادب طوال مرحلة دراسة (الادب الأنكليزي). يجد الكاتب المسرحي (عباس الحايك) ان عروض (المونودراما) تُغري الكثيرين بدءاً من الكاتب وحتى الممثل الذي يجد فيها فرصة لأختبار قدراته الأدائية واستعراضها، مروراً بالمخرج الذي يضع كل إمكاناته في تدريب ممثل واحدا بدل الجهد الذي يبذله في تدريب طاقم تمثيلي في المسرحيات متعددة الشخصيات، ويذكر د. فاضل خليل صعوبة هذا الفن “القلة من ممثلي المسرح العربي قادرين على تولي مسؤولية التورط في محنة الوحدانية على المسرح،لأنه غالباً لا يمتلك من أدواته أكثر من موهبة (السير والحوار والبكاء) وهي أقصى غايات الإبداع لديه، وكلها قاصرة عن تقديم عرض فني متكامل”. لقد حملني مضمون المسرحيتين الخوض في موضوع يتقارب فيه البعد الواحد وهو (الحرب والتجنيد الاجباري) فأنا لا أرغب بمفردات حملها تأريخنا الحديث منها الإلزامي بدلا من الإجباري أو ما يسمى بـ(قانون الدفاع الوطني) فهذه التسميات لنعت (التجنيد الإجباري) تُستخدم ليكون واقعها هيناً على مستمعي هذه المفردات. لم تكن الذاكرة العراقية تحمل خيراً عن التجنيد الإجباري فيذكر علي الوردي انه مرت على العراقيين تجربة مريرة في التجنيد في عام 1877حين سيق عشرة آلاف مجند منهم الى قفقاسيا فهلك أكثرهم من شدة البرد والجوع، ومن هنا نشأ النواح المشهور في العراق (أويلاخ يا دكة الغربية)، وكذلك في العام 1914 عندما سيق المجندون الى الغربية تحت راية الدولة العثمانية ولم يعد منهم أحد. اما في تاريخنا المعاصر، فحدث بلا حرج عن حروب السلطة الشمولية المتعددة التي ذهب فيها أجيال كاملة من الشباب العراقي تحت وطأة حروب بلا ثمار (غير الموت وتدمير الأقتصاد الوطني)، وهنا تستحضرني كلمات عبد الرحمن الكواكبي حين قال في الجندية “مخترع هذه الجندية إذا كان هو الشيطان فقد أنتقم من آدم في أولاده أعظم مايمكنه أن ينتقم....!، تفسد أخلاق الأمة؛ حيث تعلمها الشراسة والطاعة العمياء والإتكال، وتمُيت النشاط وفكرة الاستقلال، وتكلف الأمة الإنفاق الذي لا يُطاق، وكل ذلك منصرف لتأييد الأستبداد المشؤوم : أستبداد الحكومات القائد لتلك القوة من جهة، وأستبداد الأمم على بعضها من جهة أخرى”.فنحن امام (الحرب والتجنيد الإجباري) وظّف بريشت في مسرحه الملحمي الذي يقوم على مرتكزات أساسية في أن للمسرح رسالة (سياسية- إجتماعية)، وينبغي تنوير المشاهد بحقائق الوقائع كما هو، فلا ينبغي من المشاهد أن يندمج في الأحداث ولا أن يعيشها مع شخصياتها الفنية، بل أن يكون على وعي بما يجب أن يكتشفه من الأحداث المعروضة.فهو يطلب من المشاهد أن يفكر وان يحكم على ما يقدم له من قضايا وهذا لا يمنعه من التعاطف مع الشخصيات الفنية،فبطل المسرحية يقدم للمشاهد (تحذيرات أو كلاماً مباشراً مع الجمهور أو تقديم أغنيات) تمنع المشاهد من تقمص شخصيات العرض المسرحي، فعلى المشاهد أن يكون على وعي تام عند مشاهدة احداث المسرحية بعيداً عن المعايشة أو الأندماج فهذا الوعي يجعل منه مشتركاً في البحث عن المشكلات وما ينبغي تقديمه من حلول لما تحمله المسرحية من أهداف (إجتماعية – سياسية). بين بطلة مسرحية الأم (شجاعة) و(جمالة) بطلة مسرحية (النهضة) وشائج يتعذر توحيد مواقفهما من الحرب والتجنيد، لم تكن الأم (شجاعة) التي أكتسبت هذه الكنية لفرط شجاعتها وأنما كانت (شجاعة) في الحفاط على ديمومة رزقها والأفادة من حالة الحرب فهي تمتلك (عربة تبيع الأغذية)، فالسبب في هذه التسمية أنها وكما تقول هي (إني أدعى “شجاعة” لأني توجست خوفاً من الدمار..وأخترقت نيران المدافع ومعي خمسون رغيفا في عربتي وكانت قد بدأت تتعفن ولم يكن مفر من بيعها)، وعلى هذا فشجاعتها كما يذكر عبد الرحمن بدوي في مقدمتة للمسرحية ليست شجاعة مثالية، بل شجاعة مادية، كانت هذه الشجاعة بدافع الكسب أو الأحتفاظ بما تملك، ولم تكن شجاعة في سبيل أنقاذ أنسان أو الدفاع عن وطن أو مبدأ، في حين كان أسم (جمالة أم جواد) التي تملك (بسطية لبيع الشاي في كراج النهضة) تقول عن أسمها ولدت بعد (خمس بنات جا ليش ما يسميني جمالة) وقد ضاقت الدنيا بعين والدها فاطلق عليها أسم (جمالة) فهي زيادة على عدد البنات، ولكن يبقى أسم (جواد) أبنها الذي فقدته في الحرب ولا تعرف شيئاً عنه وتسأل (الرايح والجاي)عنه ملازم  لأسمها  فهو الذي يحمل معنى (الجود والكرم والعطاء). كانت (تغريبة) الأحداث وهي أحدى عناصر المسرح الملحمي عند (بريشت الذي كتب المسرحية عام 1939 والمانيا بلده على ابواب الحرب العالمية الثانية) في حين نجد مسرحيته تدور أحداثها في العودة الى أيام الحروب الدينية في اوروبا تحديدا في ربيع عام 1624 حين كان جيش ملك السويد يستعد لغزو بولندا، فيقوم العرفاء في جيشه بتجنيد الشباب لحملات الحروب. وبرأي قادة الجيش أنه بدون الحرب والعنف لا توجد أية أخلاق فلا بدّ من سيطرة النظام العسكري فمع هذا النظام العسكري (نجد قوائم جيدة وسجلات وافية وأحذية محزومة وقمحا ودواب ورجالا أحصوا إحصاء دقيقاً وجندوا لأن الناس يعلمون إنه بغير نظام فلا حرب)، فالذي يقوم بجمع الجنود يعاني من تهيئة العدد اللازم منهم فقد طلب منه النقيب أن يجهز أربع سرايا، ولكن لا أحد يرغب بتجنيده، فيعمل العسكر على  جبر الشباب بالالتحاق بالجيش قصراً. في حين تدور أحداث (مسرحية النهضة) في مكان وزمن حاضرين تشكل جزءاً كبيراً من واقعنا، فالمكان كراج (ساحة النهضة) التي ارتبطت بالذاكرة العراقية (درب الصد ما رد) أو (بوابة الموت) أثناء حروب السلطة الشمولية المتعددة، كما أنه جمع بين أوجاع (الحرب والحصار)، فالجنود هم مادته الأولية التي تكتب عنهم أحداث ما يدور من حزن يتردد على شفاههم أذا ذهبنا هذه المرة الى الجبهة..هل لنا من عودة ؟ وصور قاسية بوداع أب أو ام تصر على أيصال أبنهم (الجندي) الى كراج النهضة بين الدموع والدعوات التي تقشعر لها الأبدان يكون وداعاً يتكرر بين ساعات وايام كراج النهضة. لم تكن الأم شجاعة تهتم لمآسي الحرب وقتل جنود بلدها بقدر رغبتها بيع بضاعتها فهي تعلن عنها  فتقول مخاطبة العريف:

يا عريفي يسير جندك بلا طعام إلى المعارك

دع “شجاعة “ بكأس شراب تشف جنداً من المجاعة

هل من العدل ضرب مدفع في بطون الجياع ؟

كلا...أشبعوهم...وأهلكوهم

عرض مقالات: