شاءت الأقدار ان يقع الأختيار على أبنها الكبير(إيليف) في أن يكون مجنداً في الحروب تلك الحرب التي تفرح الأم شجاعة بأستمرارها لأنها مصدر غناها وجمعها المال، ولكن عندما يتعلق الأمر بأبنها تقول للعريف : أني أعرفكم : ستأخذون به إلى المذبحة ... فيكون الجواب : سنعطيه خوذة جميلة وحذائين طويلين جميلين. وعند مقاومة الأم شجاعة يقول لها العريف : لقد أعترفت أنك تعتاشين من الحروب ، وإلا فمن أين تكسبين إذن قوتك ؟ وكيف تكون ثم حرب ، إذا لم يوجد جنود؟ فيكون جوابها ليس من الضروري أن يكون الجنود من أولادي، فان من يصير جنديا يخدع نفسه. وبعد أخذ أحد أبنائها أخذ العريف يردد ( كل من يبغي من الحرب مكاسب ... ينبغي أن يدفع السعر لها). لم يكن (ايليف) أقل من أمه في الأفادة من الحرب ، فقد أصبح مقرباً من القائد فشعاره دائماً ( أن الضرورة لاتعرف قانوناً)، اما أبنها الأصغر فلم تستطع أمه ان تثنيه من أن يكون جنديا ، فهو (امين صندوق) في الكتيبة الثانية لايشترك في القتال. تعلم الأم شجاعة ان كل شي مباح في الحرب فمدير الامدادات يعرض عليها شراء ذخيرة الجيش ، أنه يبيعها والجنود بحاجة لها للدفاع ، فيقول مبرراً إن أحدى اليدين تغسل الأخرى.القادة يعلنون ان الحرب مقدسة ولكن في واقع الامر الحرب بالنسبة لهم مكاسب، وهي بالنسبة لي و(كما تقول الأم شجاعة ) تشكل مكاسب ايضاً فمن السهل عليها أستبدال علم عربتها الذي كان مرفوعاً عليها لمدة (25) سنة بعلم أخر بعد تغير ميزان الحرب ،فترفع علم المنتصر، وتفقد أبنها الصغير بعد أن ساومت كثيراً في تقليل مبلغ فدائه ، مما ادى الى قتله من قبل أحد أطراف الحرب الدائرة وتنكر معرفته لكي لايصبها أذى بسببه ، وتقول ( احملاه ! وادفناه في المقبرة المشتركة . لا إحد يعرفه). أن أجواء الحرب على الرغم مما يدعيه قادتها أنها حرب مقدسة ولكن مظاهر الانحلال في كل مكان ( السرقة والكذب والبغاء والرشوة والحيلة والثمالة والنهب والسلب والضرائب ..) ، فما هو محظور أيام السلم يصبح مباحاً أيام الحرب وفي مقابل هذا الأنحلال تسمع موسيقى الأنتصار تعزف وكلما أتسعت الحرب وطال أمدها حققت الأم شجاعة ارباحاً ومكاسب فهي تبخل بان تجود ببعض( الشاش) الى الجرحى المدنيين من الفلاحين وتسومهم بثمنها . أن مايقلق الأم شجاعة هو سؤال واحد فقط (هل ستنتهي الحرب)، ان سؤالها لغرض واحد (هل ينبغي شراء البضائع ) فهي تخشى شراء البضائع وتنتهي الحرب فينخفض ثمن ما تشتريه من بضائع ، وتبقى الحرب تشكل حياتها ، ( فهي ضبع ساحات القتال ) ذلك الضبع الذي يعتاش على ما تخلفه أفتراس الفرائس من الحيوانات .تجد أسعد أوقاتها في الأنتقال الى اماكن تدور فيها المعارك، فهي تردد (بادرو للحرب فوراً)، ومع أستمرار الحرب التي بلغت (16) عاماً لم يظفر الناس بشيء سوى الدمار التام ، فهي تتخيل أن تتجول في الجحيم تبيع القطران ، تفقد أبنتها (الصماء والبكماء التي حاولت ايقاظ أهل البلدة بقرعها الطبول بعد محاولة العدو غزوها) في الحرب وتجهل مصير أبنها الأكبر ولكنها تواصل السير الى اماكن اندلاع الحروب لبيع بضاعتها. فالحروب ومادتها الجنود هما حددا سلوك الأم شجاعة ،لايستطيع المشاهد أن يتفاعل مع شخصية الأم شجاعة وهي تنزع ابعاد أمومتها فلا تحزن على أبنائها التي فقدتهم بالحرب لقد حاولت الأحتفاظ بهم مثل السلع التي تتاجر بها ولكن دون عاطفة لتختم دورها بـ(عليّ أن أذهب للتجارة).

اما مسرحية “النهضة” وبطلتها “اجمالة” فنحن أمام صورتين الأولى بطلتنا (اجمالة ) الأم العراقية صاحبة (البسطية) التي فقدت أبنها جواد في الحرب و كراج النهضة، ذلك الكراج الذي هو صورة مصغرة عن عراق (الحرب والحصار) و هو الخميرة التي قادت الى (عراق اليوم) ،فقد بشر هذا الكراج بما يسود بمجتمعنا اليوم من خراب فاذا كان الغش في الكراج يقتصر على غش بيع (الجاي) أو وهم (الصمونة الخالية من الكيمر) ومظاهر فساد أخرى أصبحت من عموميات (سلطة ومجتمع ) اليوم ، أزاء هذا الخراب تبقى (أجمالة) رمز طيبة الأم العراقية التي عاصرت نوائب تشدقات السلطة ولكن عواطفها تبقى فطرية فهي على ثقة تامة أن من يموت في الحرب تبقى روحه حاضرة (ليلية تطوف ارواحهم على سما النهضة أثنين أثنين وخمسة خمسة ) لتقول لهم أجمالة (هلا هلا يابعد أهلي تعالوا غنوا ويا عمتكم اجمالة يا عمرنا يا عمر ياقهرنا ياقهر ياحزنا يا حزن )، فحزنها هو حزن جميع العراقيين فليس هناك قوة تستطيع أن تعزل ما تعبر به (اجمالة أم جواد ) عن هموم عشرات السنين بين موت الحروب وجوع الحصار . ولكن جمالة ترفض أن يعرف أبنها جواد (يمة أمانة الله عليك لا تكولوله  ) أخذوا من أمه (الجولة) التي تستخدمها لعمل الشاي ، فان البلدية  (تتمازح ويانا) وأنها (بخير وربيع )ولا تريد احد (يوصل) الى جواد  (آني ما بعت استكان جاي) للأسف لا أحد يشتري (الجاي المهيل ) من جمالة ، فهم يبحثون عنه عند نساء (آخريات ) ترفض أجمالة أن تكون أحداهن في وضع (شوية حمرة و بودرة وعلج ماي) ، ان كاتب النص المسرحي  على وعي تام أن جميع العراقيين هم الهدف لنتائج الحروب والحصار فعند نعي اجمالة على طور عراقي أصيل تقول ( يمة جعنا وما لكينا اطحين بالبيت أجويد يمة أخاف يمر وكت وما نلكا البيوت)، فذروة الحدث هي نبوءة ضياع (البيت - الوطن ) ، فضلاً عن كلمات تعّبر عن شجاعة الكاتب عباس حربي تُقال في ظل سلطة شمولية ( عُرضت المسرحية على خشبة منتدى المسرح سنة 1997) (اليوم اريد اطلع حُركة (حرقة) الفُكر(الفقر) الجاثم على أصدورنا صارله سنين) ،ولم يبقى من عمرنا شيء إلا (جناسي الحصة) ، (طشوا لا تجيكم الأنضباطية طشو). وعندما ياتي أحد الشباب تقول له (هلا هلا يابعد أهلي عمة جنك اوليدي نفس الطول نفس النطاق نفس البدلة) ، أنه يريد أن يصلي  فتقول له ( عمة تعال  صلي على عباتي )، هي تردد (الله واكبر يرجعلي جواد أبن جمالة) و( سبحانه يرد على العريان هدمة) وأثناء الصلاة تهجم البلدية لتقول جمالة (عمي شنو السالفة البلدية عايفة الزبالة وتركض ورانا) تستجير اجمالة بالشخصيات الهامشية التي تشرك معها في أفتراش رصيف كراج النهضة وتقول (عمة علاوي ابو العربانة)  تعال أخذ (الجولة -استكاين الجاي) هي بدون  (عباية وعمرها ما مشت بطرك ثوبها) ، فالذي ادعى أنه يريد الصلاة على العباية قام بسرقتها، وهذه هي (أخلاق الحروب وجوع الحصار) ، لتعلن عن نهاية عهد الشعارات وتقول أجمالة (همدة النهضة اللي ما نهضت بروحها يوم) ، فلم يعد هناك شيء يستر (جتف اجمالة).لم تكن إلا الحروب وتجييش الجنود تحت تسميات (الواجب المقدس) أو بالأحرى ليس من أجل الأوطان بل من أجل طموحات الطغاة ، لستُ متحيزيةً أزاء شجاعة النص العراقي ( النهضة)  فهو لم يهرب الى التاريخ بدعوة (التغريبة) بل دخل في التاريخ المعاصر ليكتب تاريخ المستقبل الذي تنبأ به في ظل (سلطة شمولية) ، أصدرت قرار يقضـي بقطع صوان الأذن لكل من ارتكب (جريمة) التخلف عن اداء الخدمة العسكرية أو الهرب منها أو إيواء المتخلف أو الهارب أو التستر عليه. ويوشم جبهة كل من قطع صوان أذنه بخط افقي مستقيم بطول لا يقل عن ثلاثة سنتمترات ولا يزيد عن خمسة سنتمترات. وقرار أخر بمعاقبة كل من قام أو ساعد على إزالة علامة الوشم أو أجرى عملية تجميل لليد أو الأذن المقطوعة بعقوبة قطع اليد أو الأذن مع الوشم وحسب الأحوال.

 فكل جملة قيلت في (النهضة) تؤلم ربما لأننا عايشنا أحداثها بكل تفاصيلها ، تبقى مسرحية “النهضة” تجُّسد الحزن العراقي بكل صوره جنوده وشخصياتها المُعدمة التي عاشت تفاصيل الحرب (الموت) وجوع الحصار. أما عواطف السلمان (اجمالة) ، فقد تفوقت على (أجمالة ) النص الورقي بـ (حركة وتنويعات صوتية متعددة) بين أصوات الشخصيات الأخرى التي جعلتنا نراها بصوتها ونتحسس لما تقوله ، ويمكن القول أن نص مسرحية “النهضة” هو (قصيدة شاعر) تجسدت بصوت واداء (عواطف السلمان).

عرض مقالات: