لم يكن من السهل طرق موضوع يتناول فكر هادي العلوي لاسيما وهو يتنقل بنا تنقلات جريئة  بين موضوعات شتى (تاريخية وفلسفية وسياسية وأدبية) وهذه الموضوعات هي (المرئي واللامرئي في الأدب والسياسة وفصول من تاريخ الإسلام السياسي ومن تاريخ التعذيب في الإسلام الى مدارات صوفية وفصول عن المرأة وشخصيات غير قلقة في الإسلام فضلا عن عشرات الموضوعات والمقالات الاخرى) يقف موضوع حيوي لجميع ما تناوله العلوي وهو موضوع  صراع المثقف مع السلطة (السلطة السياسية وسلطة الموروث التاريخي وسلطة الموروث الديني وسلطة المال). ينفرد العلوي بموضوع يندر أن يتناوله الكثير من اَلْكِتَاب، فهو لم يطلق للمثقف الخيال في أن تتحمل السلطة بمختلف تسمياتها عبء ما يصدر عنها من كوارث تحت تسميات مختلفة فجعل العلوي المثقف في ميزان (الحسنات والسيئات)، فكما أن السلطة تسببت بـ(كوارث)، فالمثقف بمختلف فئاته يتحمل كذلك جزءاً كبيراً من المسؤولية ايضا. اين تكمن نقاط الضعف التي جعلت من المثقف العربي لا يقل سلبية عن السلطة؟ كان هذا المثقف يركن إلى ما يشاع من نظريات جاعلاً من نفسه مردداً لما يُطلق من الغرب ؟ الكثير من الأسئلة يطرحها العلوي دون أن يضعها بصيغة أسئلة واضحة، فالقراءة المتأنية لأثاره الفكرية تجعله في موقع المقوّم للحركة الثقافية العربية في جميع أبعادها (الفكرية –السياسية) نوجزها بالنقاط الآتية:

أولا : مفهوم وفئات وأداور المثقفين

  1. إن ما يطلق عليه مثقف عندنا لا يزيد عن مترجم ممتاز، لما طرحه الغربيون من مناهج، والباحث العربي يتلقى دراسات الباحثين الغربيين في مختلف الموضوعات بأقل قدر من حسن التصرف وبمنهج أتباعي خال من الحس النقدي الذي يتضمن (الدراسات الميدانية والاستنتاج الشخصي). ولتفسير هذا العجز في الفكر المعاصر راجع الى المثقفين والملابسات العرقية واللغوية التي تتمثل بالخصائص السلبية للعقل العربي من جهة وفي خطابية اللغة العربية من جهة ثانية. ويردد (مثقفنا العربي) ما يقوله علماء اللغة والأنثروبولوجيا الغربيون عن العرب.

2.يبقى الموروث الديني حاضراً في فئات مثقفي هادي العلوي الذي ميز بين (المثقف العالم) و(المثقف العارف) فالمثقف العالم هو الذي يخشى الله والمثقف العارف هو الذي يهاب الله ولا يخشاه، ففي الهيبة ندّية  ليست في الخشية، فالعالم يدرك ما يدركه الناس ويمارسونه وهم في جملة (عالم الدين وعالم الطبيعة) ويتميزان بضعف الوعي الاجتماعي والميل إلى المادية الصرفة، اما العارف فهو الذي يمتلك وعياً اجتماعياً أضافة  إلى عمله فعلاً سياسياً أو اجتماعياً جعله جزءاً من اَلرَّأْي العام الذي يواجه السلطة بمختلف تسمياتها (السلطة السياسية وسلطة الموروث الديني أو سلطة المال)، فدرجة (الوعي الاجتماعي) العامل الأساسيَّ في  تشخيص المثقف كما هو الحال في الشخصيات الإسلامية التي جعل منها وعيها الاجتماعي تتصدر الشخصيات الثقافية مثل (أبي ذر الغفاري) و (سلمان الفارسي).

3.سيادة التعميم والمصانعة في الفكر العربي، فالذين تأثروا بالافكار اليسارية من المثقفين مالوا إلى إعمام المنطلقات الفلسفية لـ(الصراع الطبقي والحزب الطليعي والنضال الثوري)، ومجدوا الثورات التي قامت تحت هذه الراية. فجاء تمجيدهم للثورات ورجالاتها من خلال منشوراتهم التي لاتختلف عما تنشره أجهزة أعلام الأنظمة (الثورية المتمركسة) التي تمارس عملا ً قمعياً بوليسياً ضد الشعب وتطبق سياسة التجويع  ضد شعبها في حين يعيش أقطابه وحواشيه في (ليالي شهريار)، كما تحطم الجدار الصلب الذي كان يفصل بين (المثقفين التقدميين) والطبقات الحاكمة  لتطابق الشعارات بينهما وتوفرت مبررات شرعية للعمل في رعاية الأنظمة التي توصلت إلى أن تجمع حولها لفيفاً متزايدا من المفكرين السياسيين في كل بلد، ووجد المثقفون فرصا ذهبية يجمعون فيها بين العيش الرغيد والواجب الثوري دون أن يضطروا إلى التضحية بأحدهما لحساب الآخر ولكن هذه الفرص لم تتهيأ في الحقيقة دون تضحيات، فالضرورة تتطلب قدراً مناسباً من المساومات يتراوح بين التبرير والسكوت (تبرير السياسيات التي تمارسها الأنظمة القمعية)، فالفكر المبرر هو ثمرة الأنفصام بين النظرية والواقع أن الماركسية في السياسة تفترض تناول النظرية كما هي في الواقع وعدم الاقتصار على التنظير الفلسفي، فهناك انفصام بين الواقع والنظرية.

ثانيا: طبيعة السلطة السياسية: يؤكد العلوي في دراسته لـ(طبيعة السلطة) في الأنظمة العربية في تاريخنا الحديث والمعاصر التي هي امتداد لتاريخ تجارب ممارسة السلطة في الموروث التاريخي من خلال دراسة (التاريخ الشخصي والسلوك اليومي والوضع السياسي) ضمن موضوع  (سيكولوجية الحكام العرب) الذي يتعذر معه وكما يذكر العلوي القيام باستجواب أو الطلب من المعنيين تثبيت إجاباتهم لأغراض البحث. وتتضمن هذه الدراسة :

1 - البحث ضمن (الانحدار الطبقي) للحكام العرب وهو (الإقطاعي والبرجوازي)،  أما المعيار الثاني لأنحدارهم فهو(المعيار التعليمي) والذي يشمل (الجهاز الإداري والعسكري والوسط الوطني من المرشحين من التنظيمات الحزبية). أما وسائل الحصول على السلطة فهو الأسلوب الأنتزاعي  وهي عملية أنتزاع السلطة عبر وسائل (الانقلاب العسكري والالتفاف على حركة وطنية وسلب السلطة منها والتواطؤ مع القوى الخارجية ضمن مفهوم – العمالة-). 

2 - اما سمات الحكام العرب فهي الميل إلى المظاهر والمبالغة في البذخ الشخصي وضعف الحس التنموي. وتمحور شخصيته في القناع الذي يرتديه وعلى وفق الظروف وزعامة وسيطرة (الطغاة)، والثراء الفاحش، والمتع الشخصية وسلوكية القرصنة من (مخاطرة، طيش، لهو، نهب، سلب، مباغتة، سرعة) وكما يعمل على اختيار الشخصيات الضعيفة للمناصب الرسمية.والإذلال الذي يجعل رجل الحكم يخضع في تصرفاته لمواصفات غير طبيعية يتعذر فهمها فالجميع في خدمته..اما العمالة للأجنبي فترجع إلى (دونيته) وما يتصل بالشعور بضآلته أمام الغرب (المتقدم) ومجتمعه المتخلف.

ثالثا: صور معارضة السلطة: يرجح العلوي معارضة السلطة من خلال مؤثرين هما:

المؤثر الأول: (اللقاحية الجاهلية) يعد المؤثر الأكبر في ثقافة المعارضة وهو منحى رفض للدولة وسلطاتها الذي تبلورت به شخصية الفرد العربي في الجاهلية واستمرت تفعل فعلها طيلة عصور الإسلام وهي تشكل أحد أهم عناصر التحريض في الصراع (السياسي- الاجتماعي) التي ازدحمت به العصورالمختلفة.

المؤثر الثاني:  (المشاعية) فهي وعي مشترك لسكان (آسيا) الذين يتشكل تأريخهم من الصراع بين نزعتين متكافئتين في الشدة هما النزعة الإقطاعية والنزعة المشاعية، فبعد أن كانت الأرض مشاعية للجميع لـ(الزراعة أو الرعي) جاءت صور الإقطاع لتلغي صور المشاعية  وليبدأ الصراع ضد سلطة الإقطاع. تختلف صور معارضة المثقف للسلطة التي هي جزءاً لا يتجزأ لنتائج المؤثرين أعلاه:

1 - المثقف الذي يتخذ موقفاً سلبياً من السلطة السياسية ويدعو إلى ضرورة مقاطعة السلطة السياسية بأشكالها (الفاسدة الخائنة)، فيعمل على إسقاطها من خلال التحالف مع القوى التي تعمل من أجل إصلاح الأوضاع الفاسدة داخل الوطن. إلا أنه يرفض المشاركة في العمل ضمن أجهزتها من أجل الحفاظ على استقلاله كما يبتعد عن الانضمام إلى أحزابها الحاكمة. ويكمن دوره الحقيقي في نقد واستخراج مكامن الفساد من أجل عرضها على الشعب من خلال الأعمال الفكرية والأدبية بحثاً أو مسـرحاً أو بأيّ وسيلة إبداعية. ونظراً (للقصور العقلي) الملازم لأصحاب السلطة (الحكام والاتباع)، فقد تسببوا بكوارث لشعوبهم، ولذا نجد أن السلطة بها حاجة إلى مثقف يهديها (قصائد مدح) لتبرير أعمالها.

2 - يعارض  المثقف سلطة الأنظمة السياسية ولا يعاديها فهو يختلف معها حول مشاريع سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، معارضة ندية لها، فهي أنظمة معادية لـ (الاستعمار بصوره المختلفة)، و (وطنية نوعاً ما)، فقد يجد المثقف حاجة للدفاع عنها ضد التآمر عليها من (المستعمرين في الخارج أو الرأسماليين المحليين)، إلا أنه لا يندمج فيها. لأن اندماج المثقف في (السلطة) يجلب الضرر عليه وعلى الدولة الوطنية (التي ينشدها) ويجعل منه داعية أو يقيد تفكيره بوظيفته الإعلامية، ومن النادر أن يكون مثقف السلطة قادراً على الإبداع، فالسلطة نقيض مطلق للفكر حتى لو كانت سلطة (دولة الفلاسفة الخيالية). وفي جميع أطوارها لم تخرج الثقافة الرسمية عن أهازيج المدح، نظماً أو نثراً،وإذا كان المثقف الذي يمدح الحاكم الفاسد في حكم (المرتزق) فإن الأديب الذي يمدح (الحاكم الوطني أو الشعبي) يكون في حكم  (التابع) الملحق بجسد الدولة الوطنية أو الشعبية.

بعد هذا الطرح لطبيعة علاقة المثقف بالسلطة، فـ (هادي العلوي) له الريادة في تجربته النضالية والفكرية في طرح موضوع نادر، وإن تناوله مفكرون آخرون من العرب، ولاسيما ما هو متعلق بالنقاط الآتية:

1 - ميز العلوي بين (المثقف العالم) و (المثقف العارف) في معيار الحرية الفكرية تلك الحرية  التي لا تخرج عن مهابة الله، فالمهابة أجدر من الخشية التي تدور في التسليم دون مناقشة. فالإرث الديني كان حاضرا بجانبه المشرق والواعي.

2 - حضور الموروث التاريخي في معارضة السلطة في مصطلح (اللقاحية الجاهلية)، فالسلطة التي لا تقوم بخدمة المجتمع يكون استحقاقها (المعارضة) ضد وجودها واستمرارها، فمعارضة السلطة  لها أسبابها العديدة ولا تدخل ضمن نزق وترف بعيد عن قضايا المجتمع.

3 - يحذر هادي العلوي من مغبة وقوع المثقف في متاهات (العمالة) من خلال التميز بين (المثقف المعارض) و(المثقف المعادي) فالعلوي يرفض المثقف الذي يتعامل مع سلطة أجنبية تحت أية تسمية، لإسقاط السلطة السياسية، فإسقاط السلطة ليست عملية قيصرية تقتصر على إسقاطها فقط ، فالوطن يكون معرضا إلى انهيار (القانون العام) و (الأمن المجتمعي العام) و (أنهيار الجيش). وهنا ايضا يكون الموروث التاريخي حاضراً في (وحدة الجماعة) و(عدم شيوع الفتن).

عرض مقالات: