اخر الاخبار

كثفت الكاتبة خبراتها الحياتية عبر عقود من الزمن وعتقتها في بودقة فكر متقد لتقدمها للقراء بدراما جذابة لا يمكن للمرء إلا أن ينجذب لها، مثيرة لديه محفزات للتخيل ومنصات للاكتشاف بعيدا عن الإحباط واليأس ، راسمة عوالم لمتع حسية وعقلية في لعبة ذهنية ساردة لأحداث وحكايا لا حصر لها.

وبصبر متئد شحذت حماس القارئ بمتابعة حكاية أو حكايات موثقة تاريخيا سطرتها بنفس روائي عميق أزالت فيه عقم المشهد وقتامة التجهيل بعيدا عن متطلبات الحياة البيولوجية والغرائزية ماسحة عنه غبار النسيان و التجاهل واضعة إياه حقائق عارية تلكز الضمائر كي لا تنسى.

ففي الصفحة 12 من روايتها “ حفيد البي بي سي” تصف مثلا أيام الحصار بدقة متناهية معتمدة تفصيلات يومية توخز فينا ذكريات عصيبة  فتذكر” أيام حصار تسعيني قاس، اختفت فيه الخردة من الجزادين، والطائرات من السماء، فتعلق العاقل والمجنون بسامكو وحب الشمسي قمر” .

ومن مخزون خبرات و معين القراءات الموسوعية شجعت القارئ على مغالبة الضجر وتحدي أي شكل من أشكال الملل ملامسة تخوم عوالم لا نهائية أكدت  فيها على قيم معرفية في عمليات استقصاء دقيقة واكتشافات من بطون الكتب بشغف العاشق، إذ لا قيمة للمعلومة إن لم تقترن بفكرة العارف الفطن المتلهف لاكتشاف العالم. وفي الصفحة نفسها تؤشر حياة بطلتها بملامح متشعبة معتمدة التاريخ والمخيال الشعبي وحتى الأغنيات الشائعة إذ تذكر “ الطريق الإسفلتي الوحيد المعبد بالقار في المدينة، كان يؤدي إلى زقورة أور، ولأنه يمر بمحطة القطار في الناصرية ، فقد ظن الناس أن المكيَّر ومحطة القطار شيء واحد، مما جعل الشاعر زامل سعيد فتاح يخلد تلك المحطة في قصيدة تقول( مشيت وياه للمكير اودعنه، مشيت وكل كتر مني إنهدم بالحسرة والونة). لحنها كمال السيد على مقام الرست، وغناها المطرب ياس خضر عندما دخل التلفزيون الملون إلى العراق، فوضعوا خلفه درزن باينباغات ملونة تتدلى من سقف الأستوديو كما الرماح.. ولد أبوها صبيح ناظر تلك المحطة قرب مزارع الرز العنبر في ناحية الشامية التابعة للواء الديوانية، ثم تزوج من فتاة تدعى شمسة مولودة في محلة البغادّة بسوق الشيوخ، وهذا السوق قد ورث اسمه من أرض أسماها السومريون ب(سوك مارو) وتعني سوق الحكيم...”.

كما تستذكر تاريخ قصة (قطار الموت) الحامل للمناضلين الشيوعيين بلمحة حاذقة  مستذكرة بطولة سائق العربات عبد عباس المفرجي والد الزميل والصديق الناقد السينمائي علاء المفرجي حين تذكر “وكان معلما لسائق القطار الشهير الذي عبر الجسر الحديدي عند افتتاحه عام 1945، فحل محل السائق الهندي الذي تراجع عن قيادته رهبة من وجود ملك العراق في القطار. هذا السائق الشهير هو المرحوم عبد عباس المفرجي، وعرف فيما بعد بسائق قطار الموت والذي شق طريقه إلى نقرة السلمان حاملا 520 سجينا سياسيا وضعوا جميعا في عربات الحمولة، فوجد السائق أن عليه إنقاذهم من موت محقق..”.

كما قدمت خبرة منتجة بمغزى فلسفي مستمد من جذور ضاربة في عمق الذات والمجتمع، مستعينة بالأساطير والموروث الشعبي بحذق العارف واضعة يديها على جروح غائرة في نفوس العذروات وتشرح بما يعرف شعبيا بحادثة “ عروس القاسم” أثناء وقائع معركة الطف فتذكر في ص 21” واظبت شهرزاد أيضا على حضور مجالس إمبراطورة النواح أم علي، وتعلمت منها قول الملاحم في عاشوراء ورفع حرارة المأتم بين النساء النائحات، ومساعدتها الندابات القّوالات، حيث تمتزج أحيانا طقوس الموت بطقوس الفرح، فتدور صينية القاسم بالحناء والشموع والآس على النساء وتطلب العذراوات المراد من يوم القاسم، ثم ينتهي فاصل الفرح بإطفاء الشموع وسكب الدموع تمهيدا لطقس العرس الدامي وموعد القاسم ابن الحسن مع الموت..”

بهدف إحلال التوازن النفسي وتعزيز شجاعة المتلقي على تفهم كافة فصول غرائزه ونزواته  تشرح بجرأة غير معهودة حين تذكر” جوقة من المتناقضات وموسوعة في الفن والفنانين أين منها دائرة المعارف البريطانية؟ وأريحيته مع الأمور الخاصة إلى حد مزعج تُرجع فيه كل شيء إلى أصله الليلي، معتقدة بأن الحياة بأكملها هي (شغل ليل)، ضاربة المثل حول ذلك بشهر كانون الأول هو الأكثر زحمة بالمواليد الذين بُذرت بذورهم في فصل الربيع، حيث تشتعل نيران الحب في القلوب، وتتحول الصحارى إلى حقول وجنان ، فيزدان ويزدهر شغل الليل.. أحيانا تضحك بالفم الملآن وتقول إن الرجال والحمام والخيول والنمور والثعالب جميعا يسيرون هكذا (وتضع يديها على كتفها كما يفعل الحمال)، يحملونه على أكتافهم أينما يذهبون، لانه، صغير وقصير القامة كما تعلمون... “ وفي لقطة أخرى تذكر: “اقترحت على تأميم وهي ابنة معيط التي شحنها إليها من السويد لتربيتها في بيت العائلة، تزويجها من ابن عمها عبد الحليم شعيط قبل أن يفوتها القطار، قائلة لها إنها قد ثقبت لها أذنيها وهي طفلة صغيرة ، وأن على حفيدها عبد الحليم شعيط أن يتولى الباقي.. الباقي هذا كان مثار ضحكات رقصت على وقعها شكشوكة، وخجلت لها البنت المسكينة، فنهرتها شهرزاد وقالت لها: اللي تستحي من ابن عمها ما تجيب ولد؟ ص 33

ومستفزة ساخرة تستفز القارئ باسترجاع تاريخ دكتاتورية حكام العراق وسلطاتهم الفارغة كقولها “ إذا دخل مثل هذا الرئيس بيته، ولبس البجامة والنعلين، فلن يكف عن التفكير بهذا الشعب لحظة واحدة حتى وإن دخل الحمام وتربع من أجل التخلص من فضلاته.. ولكن ماذا لو سحب سيفون الحمام، فغطى ضجيجه العالي فوق أفكاره؟ ماذا لو قرصته بعوضة مناوئة ظلت تلاحقه من مكان لأخر عدة دقائق دون القضاء عليها؟ هنا سيحدث نسيان للشعب وقد يكون الأمر شبيها بأب ينسى طفله في الزحام فيتوه للأبد “ ص 43

وكذا حين تستذكر ترهات عبد السلام عارف في ص 68 فتذكر “ كلها تتحدث عن شعارات لا رابط بينها ولا شيء.. فهل تصدق أن عبد السلام عارف، في أحدى خطبه أمام حشد من الضباط والجنود قال لهم: سأحجي؟ الباميا انكلبت شيخ محشي.

وأقسم مرة أمام حشد آخر من الجنود في معكسر الحبانية وقال لهم: اقسم بالله لو كان الأمر بيدي لزوجتكم جميعا”.

تتحدث عن الشيخوخة بتحليل علمي وشرح ساخر كما في ص82- 83 .. وتسرد أمثالا غزيرة على لسان أبطالها وتؤكد على الأسماء الشائعة فيها مثل شعيط ومعيط وجرار الخيط، وشهرزاد، وشمسة، وتذهب بعيدا في رسم خرائط اليأس والعبث بالمصائر مثلما استعانت ببطلها بدر الذي خططت به ملامح زميلنا وصديقنا الصحفي والروائي سهيل سامي نادر وقد أهدت الرواية باسمه.

استعانت بالحكم لإيضاح أفكارها وقد امتلأت صفحات الكتاب بها كما في صفحة 65 وهكذا جعلتنا ميسلون هادي نفكر بخلاص موضوعي وبأفكار ثورية وأدوات بحثية عقلانية، باسطة أمامنا أسئلة لابد من أجوبة لها لتعزيز قدراتنا بكل أشكالها.. لقد قدمت روايتها بثراء باذخ كأنها أرادت أن تقول كل شيء مرة واحدة وفي عملية اعادة تشكيل لما مر بتاريخ العراق المعاصر من أحداث بشكل أنيق لا غبار عليه الأمر الذي جعله مثار إعجاب المتلقي وإصدار طبعة ثانية من الكتاب عن دار ألكا والمفكر للكتب.

عرض مقالات: