ليس من السهل العثور على لفظة مثقف في التراث الثقافي العراقي عند مطلع القرن العشرين. أما في الدراسات الحديثة لتاريخ العراق فان استخدام الباحث للفظة (مثقف) هي حالة اسقاطية الحاضر على تراث الماضي، نعثر على لفظة مقاربة استخدمت للتعبير عن مفهوم (المثقف) وهي لفظة (الافندي)، يجد(لونكريك) أن لفظة افندية تطلق على طبقة من الموظفين الذين لا يملكون من حظ التعليم سوى النزر القليل الذي لايتعدى القراءة والكتابة ولكنهم يمتلكون أدب التعامل الاجتماعي، أما ملبسهم فهو على الطراز الأوروبي الحديث ولكن ارتداءهم  لهذه الملابس يبدو مضحكا فيحاولون عزل أنفسهم عن الناس، و لايتعاملون الا في اطار طبقتهم الاجتماعية، يتكلمون اللغة التركية حتى لوكانوا بين العرب، محاولين احتقار الاخرين، فضلا عن ابتعادهم عن روح الخدمة العامة. ولايعول(لونكريك) على قيام هؤلاء بالاصلاح في العراق، ولعل أفندية (لونكريك) أقرب وصفا الى بعض شخصيات الادب الروسي عند(غوغول) و(ليرومنتوف) و(دوستوفسكي) تلك الشخصيات التي تلقت تعليما بسيطا وتعرب عن ثقافتها من خلال استخدامها للمفردات الفرنسية، فهي أقرب للشخصيات المضحكة و ليست المثقفة. وطبقا لافندي لونكريك فان أفضل من صور شخصية (الافندي العربي) هو الاديب المصري (عبد الرحمن الشرقاوي) في  روايتة “الارض”. أما لفظة أفندي عند  المس (بيل)، فهي أقرب وصفا للفظة بغدادي،فهو الذي يعيش في مدينة بغداد وينعم بوسائل الترف و الراحة وموضع حسد الفلاح، وينتمي بعض الاحيان الى طبقة الموظفين ويكره اشغال الوظائف في الارياف،ويكثرالكلام عن الحرية عند ارتياده للمقاهي ولكنها حرية محددة بطبقتهم الخاصة.

ان أفندية المس (بيل) لاتختلف كثيرا عن افندية (لونكريك)، فهم فئة حصلت  على تعليم ٍبسيط ٍ يؤهلهم لاشغال وظائف ادارية، أما من ناحية ثقافتهم فهي ثقافة سطحية ليس لها اساسٌ فكري،  اجتماعي أو سياسي. ربما يسأل احد لماذا تبحثين في لفظة الافندي إذا كانت خصائصهم العامة بعيدة كل البعد عن مفهوم المثقف؟ الجواب عن ذلك ينبع من استخدام باحثين عراقيين لفظة الافندي محاولين اسقاط سمات المثقفين عليهم فالدكتور (علي الوري) يجد الافندية الاشخاص الذين كانوا موظفين أو ضباطاً في العهد التركي فهم في الغالب فقدوا مناصبهم في عهد الاحتلال البريطاني وصار الكثير منهم بلا مورد، واضطروا الى بيع مايملكون، وقد اصبحوا من رواد المقاهي يبثون الدعايات والاشاعات المناوئة للاحتلال البريطاني ويبشرون الناس بقرب عودة الاتراك الى العراق ،فليس لهؤلاء وظيفة اجتماعية يمارسونها على وجه الاحتراف، ولكن مع بدايات تأسيس الدولة العراقية عام 1921 بدأ الدكتور (علي الوردي) يطلق لفظة (افندية) على خريجي المدارس العسكرية أوالكليات المدنية في الدولة العثمانية الذين بدأوا يلعبون دورا سياسيا في تاريخ العراق الحديث فغالبا ماتستخدم لفظة أفندية مقابل لفظة مُلائية (علماء الدين)، ويجد أن الملائية يريدون تطبيق الشريعة الاسلامية على أمور السياسة بينما الافندية يريدون ابعاد الدين عن السياسة.

وبهذا أخذت الوظيفة الاجتماعية تضفي على أفندية الدكتور (علي الوردي) سمات المثقفين. ويجد الدكتور (سيار الجميل) أن الافندية هم طبقة اجتماعية تجمع فئات عليا في المجتمع المدني  نمت وتطورت تدريجيا، وقد اضطلعت بأدوار مهمة في عملية التحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية.... فكانت تعمل جاهدة على بث الوعي بين الناس بأساليب متنوعة دينية اصلاحية، ادبية ثقافية، أو سياسية وبيروقراطية و قانونية.... وهي تهدف الى  ضرورة تحسين أوضاع المجتمع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. وعلى الرغم من الغموض الذي يحيط بمفهوم الطبقة الاجتماعية و كيفية نموها الا أن لهذه الفئات ادوارا اجتماعية سياسية واقتصادية وثقافية جعلت طبقة الافندية تقترب من مفهوم المثقف. بينما د. علي الوردي وجهة نظر اخرى فيما يتعلق بأدوار المثقفين فهو يقول:

1ـ تنحصر وظيفة إولئك بالعمل على بث الدعاية للسلطان وهم علماء الدين و الوعاظ والخطباء والشعراء والمؤلفون والكتاب وذوو القدرة على تنميق الكلام من الذين جذبتهم سلطة الاحتلال البريطاني بجانبها فيما بعد.

2 ـ يتوسع د.(علي الوردي) في تحديد وظيفتهم بشكل اعمق حين وضح أن لفظة الوعاظ لاتختلف عن لفظة الموجهين فالسلاطين يستخدمون نوعين من الجلاوزة جلاوزة السيف و جلاوزة القلم وهم يبذلون من الاموال في رعاية جلاوزة القلم مثلما يبذلون في رعاية جلاوزة السيف. فان “ الوعاظ والطغاة من نوع واحد، هؤلاء يظلمون الناس بأعمالهم و أولئك يظلمونهم بأقوالهم”.

من هنا نفهم أن ليس لهؤلاء الموجهين والوعاظ من وظيفة اجتماعية سوى خدمة السلطة, فالموجهون والوعاظ يمكن أن نجدهم في تنظيمات حزبية أونشاطات صحفية، فتاريخ العراق حافل بادوار الموجهين والوعاظ.

وفي الحقيقة تكمن الصعوبة في تحديد تعريف واحد للمثقف العراقي، لاننا أمام تسميات كثيرة لعبت ادوارا كثيرة منذ مطلع القرن العشرين فالتداخل واضح ضمن الوظائف المتعددة،فلا يمكن الاخذ بافكار(ريمون ارون) الذي يبعد المثقف عن الدخول في معترك الحياة السياسية لان المثقف يميل الى طرح موضوعات تجريدية من خلال حلول غير اقعية متجاهلا الامور الاساسية و مختلقا مشكلات زائفة. لأن مثقفنا العراقي دخل معترك السياسة بل مارس السلطة من خلال تنظيمات حزبية ونشاطات صحفية. فهناك ثلاثة مفاهيم يمكن تطبيقها في مفهوم المثقف العراقي وهي:

1ـ أن المثقفين بوصفهم منظمي الوظيفة الاقتصادية للطبقة التي يرتبطون بها عضويا وحملة وظيفة الهيمنة التي تمارسها الطبقة السائدة في المجتمع، ومنظمي الاكراه الذي تمارسه الطبقة السائدة على سائر الطبقات بواسطة الدولة.

أن هذا الرأي هو الذي طرحه (غرامشي) ضمن مفهومي المثقف العضوي والمثقف التقليدي والذي اشرنا اليه سابقا.

2ـ المثقف التقني عند(سارتر) الذي ينحصر دوره في عمل تقني معين كعالم الذرة الذي لن يكون مثقفا الا اذا اضاف الى عمله فعلا سياسيا وإِجتماعيا يجعله جزءاً من الرأي العام الذي يوجه السلطة السياسية.

3ـ  مفهوم المثقف الثوري على وفق وجهة نظر(فانون) الذي تغريه ثقافة الغرب في الاطلاع عليها والسعي للعمل على تبنيها نابذا ثقافته المحلية، لكن هذا الاغراء والانصياع للتأثر بالثقافة الغربية لايستمر طـويلا ً أذ يستيقظ (وجدانه المعذب) من خلال المقارنة بين أفكار الغرب وافعاله، فيعود الى ثقافته المحلية عاملا على انتاج ثقافة وطنية يسعى بها الى تغيير الواقع.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

*باحثة واكاديمية، صدر لها مؤخراً كتاب جديد بعنوان “المثقف والسلطة” عن دار الشؤون الثقافية- بغداد.

عرض مقالات: