اخر الاخبار

إن دراسة كيف يعمل الأدب القصصي في كتاب إي أم فورستر (جوانب الرواية) وكتاب ميلان كونديرا (فن الرواية)  مثلا هما دراستان في سحر الأدب القصصي، تحليل لعناصره الرئيسة واحتفاء بقوته الدائمة. ما الذي نعنيه بقولنا أننا “نعرف” شخصية قصصية؟ ما الذي يكوِّن تفصيلا حكائيا؟ أين يكون المجاز ناجحا؟ هل الواقعية واقعية؟ لماذا تصبح بعض القناعات الأدبية بالية في حين تظل قناعات أخرى جديدة؟ هذه مسائل تأخذنا من الإنجيل الى كاتب القصص الجاسوسية جون لو كاري (1931-2020)، ومن هوميروس الى كتاب روبيرت مكلوسكي (فسح الطريق للبطيطات) 1941 (وهو كتاب من تأليف وتزيين الفنان مكلوسكي عن زوجي بط يربيان صغارهما في حديقة بوسطن العامة وأصبح مسرح الحكاية الذي حدده المؤلف مكانا تزوره العوائل ونُصب فيه تمثال للنحاتة نانسي شون، وقد بيع من الكتاب سنة 2003 حوالي مليوني نسخة). إن كتاب أستاذ النقد الأدبي في هارفارد جيمس وود (كيف يعمل الأدب القصصي؟) 2008 هو دراسة في إنجاز الأدب القصصي وتاريخ بديل للرواية، كما قالت جريدة الغارديان في عرض للكتاب، بأنه يستقصي انغمار كُتّابه المفضلين في الإبتكار العابر للغة لينفخوا الروح في العوالم التي يبتكرونها، مثلما يبين كيف يجب أن يعمل العقل النقدي.

يقول في مقدمته بأنه توجد كتب قليلة عن فن الأدب القصصي يمكنها مخاطبة القارئ العادي والقارئ المتلهف والطالب وحتى الأستاذ في آن معا. يعدّ كتاب محاضرات إي أم فورستر (جوانب الرواية) كتابا شهيرا باستحقاق، ولكنه كتب في سنة 1927، ويعبر عن إعجابه بالعمل النقدي لميلان كونديرا ورولان بارت وفكتور شكلوفسكي ويضع ملاحظات على عمل كل منهم، فكونديرا روائي وكاتب مقالات أكثر من كونه ناقدا عمليا، أما شكولوفسكي وبارت فناقدان عظيمان للنثر القصصي في القرن العشرين، يوليان مسائل الأسلوب، والكلمات، والشكل، والشيفرات، والمجاز، والإيقونات، عناية رائعة، ولكنه يلاحظ أنهما فكرا كما يفكر الكُتاب الذين يصبحون على نحو ما بعيدين عن غريزة الخلق، ومع ذلك منجذبين مثل لصوص البنوك، ليسطوا مرة بعد أخرى على المصدر نفسه الذي يغذي أسلوبهم الأدبي، ويجد أن هذا صحيح بشكل خاص في حالة رولان بارت الذي حمل علاقة حب-كره مع الواقعية الروائية. إنه أعظم وأكثر عالم تشريح عداوة لها، لكنه لم يستطع التوقف عن الرجوع الى مصدره، عن تذكير نفسه مرة بعد أخرى بكل الطرق الذي بدا مرجعه فيها مخادعا.

لقد كان شكلوفسكي وبارت ناقدين شكلانيين، فقد فضلا المسائل الأدبية الشكلية على السياسية والتاريخية والأخلاقية، ومثل الذي أسماه وود “الشكلاني ناباكوف” لديهما أحيانا طريقة في الحديث عن الأدب كما لو كان مضمونه من ناحية موضوع الرواية قليل الشأن. لقد خَلُص  بارت الى أن السرد القصصي، من وجهة النظر المرجعية هو في الواقع “عن لا شيء”: “إن ما يحدث هو لغة فقط، مغامرة اللغة، إحتفاء مستمر بمجيئها” كما كتب في العام 1966. لقد بادر منذ الخمسينيات بعض ما بعد الحداثويين المعادين أيضا لإعتماد الواقعية على تجارب الحياة والوقائع ويتخذون مثالا لهم حلم فلوبير بكتابة رواية “عن لا شيء”، بلا قضية، ومتماسكة فقط بالأسلوب، ليضعوا حث رولان بارت النظري موضع العمل. لكن قراءة فرجينيا وولف عنده تفضي بنا الى إبراز تذكير قرائها تذكيرا حكيما بأن الروائيين لا يكتبون جملة فقط بل مقاطعا وفصولا أيضا، قاصدة كما يرى، أن الروايات لا يمكن أن تكون فقط تجميعات رائعة للكلمات، ولا يمكنها النجاح إن كانت فقط صفوفا من “الجمل الجميلة”. يبين لنا هنا أنه أدرك أن السرد القصصي له شكل أخلاقي أيضا وأن شكل هذه الأخلاقيات مكون من أسلوب الكاتب ومادة الرواية معا.

هكذا تبرر الرواية وجودها، تبرره بوصفها نوعا من التحقيق الأخلاقي، هو ما أسماه فورد مادوكس فورد: “وسط التحقيق الجدي العميق في الحالة الإنسانية”. إن كل شيء في الأدب، حسب فهم وود للأدب، هو مسألة أخلاقية ومسألة شكلية معا.

يهتم الجانب الشكلاني مثاليا بمسائل المضمون لأن اختيار المضمون هو دائما معضلة شكلية، ويهتم بالأدوات الشكلية لأنها أدوات حاملة للحقيقة وليست أدوات جميلة فقط، مع ذلك كان يوجد دائما توتر جمالي حول المسألة المعذبة، مسألة كيف يجب أن يكون السرد القصصي موسيقيا لا أكثر، كيف يجب أن تكون الرواية مطابقة للموضة؟ هل هي مرآة أم موسيقى، كاميرا أم لوحة؟

أعادت آيرس مردوك تأطير هذا الجدل القديم بتقسيمها الأدب القصصي المعاصر الى صحفي وبلوري، الأول هو الواقعية التقليدية التي تعمل عمل مذيع الأخبار المنتشي المسترخي، والثاني هو الشكلانية الحديثة المواكبة للعصر والأكثر براعة ووعيا للذات. يقول وود بأنه ليس بعيدا عن الحيرة أمام هذا الإشكال ولكن ذائقته تحلها باللجوء الى (معا/ و) بدلا من (إما/ أو)، ويفضل التحرك بين الأقطاب على أن يتحرك بين الرايات.

إن أية رواية أو أي كاتب، برأيه، سيبدو كما لو كان آتيا من الوسط الصحفي الإخباري، ورواية أخرى أو كاتب آخر سيبدو ليس مواكبا للموضة كفاية، ليس صنعيا كفاية إذا كتب بالأسلوب الواقعي. يعترف وود بأنه ليس مدافعا عن الواقعية الكلاسيكية بل هو منجذب الى نوع من الواقعية العميقة، ويود استنطاقها وإظهار الطرق التي تكون فيها طبيعية وعالية الصنعة في آن معا، يريد أن يظهر كيف تعمل وتكون على مستوى محترم بتلك الألغاز التي تحتويها والتي يمكن شرحها.  

عرض مقالات: