يعد كتاب  “ثورة الجماهير” لأورتيغا إي غاسيت (1883-1955) الذي نشر باللغة الإنكليزية تحت عنوان: (The Revolt Of The Masses ) عن اللغة الأسبانية من الكتب التي واكبت الثورات الجماهيرية في النصف الأول من القرن العشرين وان ظهرت الترجمة العربية (المتأخرة) للكتاب بعنوان (تمرد الجماهير)، فقد كُتب الكتاب في فترة ما بين الحربين العالميتين، بصيغة مقالات صحفية في جريدة (الشمس )وتضمنت موضوعات في السياسة والاجتماع والفلسفة مؤكدا فيها الكاتب على موضوع مهم وهو انتهاء أسبقية (النخب) وسيادة الحشود البشرية في الحياة العامة وما ترسمه من ملامح ثورتها ولا سيما واقعة (وصول الجماهير إلى سدة السلطة الاجتماعية). لقد ضمت هذه المقالات  أفكار( أورتيغا إي غاسيت ) التي جاءت عن تجربته في الحياة في ظل المتغيرات السياسية في ثلاثينيات القرن الماضي في أسبانيا (وفي العالم عموما)، والتي رافقت إعلان الجمهورية فيها في العام 1931 وما أفرزته من حروب أهلية في أسبانيا في العام 1936. لم يحظ (أورتيغا إي غاسيت) بدراسات واسعة في المكتبة العربية ولعل دراسة عبد الرحمن بدوي من الدراسات المبكرة لفكر (أورتيغا إي غاسيت) التي ضمها كتابه (دراسات في الفلسفة الوجودية) بمقدمة عن طبيعة المتغيرات السياسية التي رافقت حياته وما يتمتع به من خصائص الثقافة من سيادة علو الأسلوب واستخدام كنوز اللغة الأسبانية والاهتمام بالألفاظ الأصيلة، فضلا عن الاطلاع الواسع على الآداب الأجنبية (اللاتينية وسائر الآداب الأوربية). وما يتميز به (أورتيغا إي غاسيت) من نزعة فردية تتجه إلى حقيقة النفس الإنسانية الباطنة بوصفها الملاذ الصادق الأمين بعد أن انهارت القيم الخارجية (الفكرية التقليدية)، فقد شك في قيمة التراث الأسباني من خلال نقده اللاذع للقيم التقليدية (الأدبية والسياسية والدينية) وتمرد على جميع السلطات، فهو صاحب أفكار فلسفية وليس صاحب مذهب فلسفي فأفكاره متباعدة الآفاق تمليها المناسبات وأحداثها. كما تطرق حسن حنفي إلى فلسفة (أورتيغا إي غاسيت) في كتابه (دراسات فلسفية) وتبقى أسبقية الدراسة لفكر (أورتيغا إي غاسيت) لكُتاب المغرب العربي. يحدد أورتيغيا غاسيت طرحه في تحديد مفردات (تمرد) و (جماهير) و (سلطة اجتماعية) لـ ((وصول الجماهير إلى سدة السلطة الاجتماعية)) في النقاط الآتية: 

1 - إن المجتمع هو وحدة من عاملين (أقليات وجماهير) فمفهوم الجمهور الحشد (كمي وبصري) وهم سائر الناس، أما الأقليات، فهم أفراد مؤهلون (نوعيا). لقد أصبحت القيمة تقاس حسب مقدار التجمهر ، فالمسرحية التي يقبل على مشاهدتها أكبر حشد من الجمهور هي الأرفع مستوى؛والصحيفة الأكثر قراء هي الأفضل ، وحتى الكتاب الأكثر توزيعا هو الأنفس .فلم يعد طموح الفرد مقتصرا في نطاق محدد فهو يقع تحت سيطرة رغبات تطمح ببصرها إلى أقصى مدى في المكان وفي الزمان من المحلي الى الكوني.

2 - أسهمت التقنيات التشريعية والاجتماعية في تأهيل نوعي للجماهير لتتمتع ببعض الحقوق السياسية الأساسية المسماة (حقوق الإنسان والمواطن)، التي جعلت من (الشعب) سيداً ولكنه ما كانت الجماهيرتصدق ذلك فتحولت هذه الحقوق إلى رغبات لا واعية فهناك (حالة إخراج نفوس البشر من عبوديتها الداخلية والإعلان عن وعي ما بالسيادة والكرامة)، فالعالم يعيش في محاولات المساواة (في الثروات والثقافات والجنسين).

3 - استولت الطبقة البرجوازية في المجتمعات (الأوربية) من خلال الثورة على السلطة العامة وطبقت على الدولة قيمها، وخلقت في أقل من جيل دولة قادرة إن تقضي على الثورات فمنذ عام 1848 انتهى عصر الثورات الحقيقية في أوربا و(تساوت السلطة العامة والسلطة الاجتماعية) فلم تحدث ثورات إلا بصيغة انقلابات عسكرية.

وبذلك سيطرت الدولة على المجتمع وهي تعمل بسرعة البرق على أي قطعة من الجسم الاجتماعي. وصار على المجتمع أن يعيش من أجل الدولة؛ والإنسان من أجل آلة الحكم وتحول الشعب إلى ( لحم وعجين) يغذي آلة الدولة وأداتها فقط. وبهذا كانت الدعوة متمثلة بكلمات موسوليني “كل شيء بالدولة، ولا شيء خارج الدولة، ولأشي في مواجهة الدولة”.

4 - التمييز بين الجمهور والنخب، فعزم الجمهور أن يتقدم إلى الصف الأول الاجتماعي ويحتل أماكن الصدارة ويتمتع بالملذات التي كانت مقتصرة على القلة مع الاعتبار أن الجمهور حل محل الأقلية من غير أن يتخلى عن أن يكون جمهورا.

يسعى الجمهور الى ان يمتلك بشكل مناسب المزايا النوعية ويكف عن كونه جمهورا.

إن (تمرد الجماهير) علامة تقدم بوصفها ينبوعا من الإمكانيات العظيمة وتحمل سمو مقارنة مع كل حياة عرفت من قبل (تاريخنا المعاصر)، ولكن الوجه السيئ لـ (تمرد الجماهير) يكمن في أن رجل (الشعب) هو الذي يحكم العالم ويقوده قد ولد النتائج التالية:

أ ‌- يشعر (الفرد العادي الذي يتصدر السلطة) في داخل نفسه بالأنتصار والأستعلاء. فيتجاهل وجود الغير ، فيعمل كأنه هو وحده الموجود في العالم.فلا يصغي لشيء ولا لأحد ، ولا يضع آراءه موضع الشك ويغلق على نفسه من العالم الخارجي، فافكاره وسلوكه الأخلاقي والعقلي حسن وكامل وغير قابل للنقاش.

ب ‌- يتدخل (الفرد العادي الذي يتصدر السلطة) في كل شيء فإرضاء رأيه دون احتياط ولا تحفظ ولا روية وبالجملة يعمل وفقا لنظام (الفعل المباشر) وهذا الموقف يقود حتما إلى البربرية لأن البربرية معناها انعدام المعايير والسير وفقا للآراء الشخصية. فالحضارة تكمن في سيادة القانون، وفي ظل (حكم الفرد العادي) تنعدم الحضارة فليس ثمة حضارة دون قانون.

ت ‌- إن الإنسان الجمهور(الفرد) ليس أحمق ، بل هو أذكى وأقدر عقليا ، ولكن القدرة لا تخدمه في شيء فهو يقدس مرة واحدة وإلى الأبد مختلف مقولاته المطروقة ، وآرائه الضارة ، ونسق أفكاره ، أو ببساطة مفرداته الفارغة التي راكمتها المصادفة في داخله وبجرأة تفسرها (السذاجة) وحدها وتفرضها كيفما شاءت ، فهو ينادي بالسوقية ويفرض الحق بالسوقية بل يجعل من السوقية كحق.فالهيمنة التي تمارسها السوقية على الحياة العامة ربما كانت العامل الأجدر في الموقف الراهن والأقل شبها بأي شيء في الماضي .

ث‌. يفتقرأنسان الجمهور(الفرد) إلى الأخلاق بماهيتها التي هي إحساس بالخضوع إلى شيء ،والوعي بخدمة شيء ،وهي التزام دائما فمجتمعات الجمهور تحصد (اليوم) نتائج سلوكها الروحي (المضني) في انحدار ثقافة (رائعة) لكنها من غير جذور. 

5 - إن أفكار إحلال الجمهور محل النخب (الأقلية) لا يستمر طويلا، فالجمهور يظن أن الأقليات السياسية على الرغم من عيوبها ونواقصها، ولكنها كانت تفهم المشاكل السياسية أفضل قليلا مما تفهمها الجماهير، ولكن هذا لا ينفي رغبة الجمهور في الأيمان بأن لها الحق في فرض بقائه في المقدمة وأن يحتل أماكن القلة (النخبة). فإن الحياة العامة لا تقتصر على السياسة فقط وإنما هي حياة فكرية وأخلاقية واقتصادية ودينية وعادات وتقاليد وطريقة الحياة في الملبس والمتعة.

بعد عرض طروحات (أورتيغا إي غاسيت)  لتمرد أو (ثورة الجماهير) يمكن أستنتاج النقاط الآتية :

1 - لا تختلف طروحات (أورتيغا إي غاسيت) عما  يتمخض عنه حكم (الأكثرية) الذي طرحه فلاسفة اليونان، فالخشية لا تكمن في إحلال (حكم الجمهور) محل (حكم الأقلية) وإنما الخشية تكمن في تحول الحكم إلى حكم استبدادي بخروج مستبد من (مجموع الجمهور) ليكون (بطل الأمة المختار) أو يحمل تسميات تعرفنا على صور منها خلال القرن الماضي والتي تصل إلى حد (القداسة الإلهية).

2 - إن الطغاة الذين خرجوا من (حكم الجمهور)، كسبوا ثقة الأكثرية من الشعب بالدفاع عنه ضد الأقلية من الذين تمتعوا بميزات السلطة (المادية والمعنوية) من وظائف عليا وخدمات متنوعة، ويتفنن الطغاة في المهرجانات التي تحمل معها الطاعة المطلقة للطاغية، فيتم سلب الإرادة العامة للشعب ويعيش الشعب في حلم المساواة وحقوق الإنسان، فالحياة العامة بجميع مفاصلها عبارة عن مهرجان دائم مع الإهمال لقضايا المجتمع الرئيسية (الاقتصادية والاجتماعية والثقافية) في الشؤون العامة.

3 - يخشى الطاغية من الجماهير الذي خرج هو منها فيعمل على افتعال حروب مختلفة لزج شعبه فيها وليتخلص من نقمة الشعب عليه ويجعل من هذه الحروب مقدسة تحت مختلف التسميات (دينية ـ مصالح البلاد العليا ـ سيادة)، ويعمل على نزع سلاح الشعب ويكون السلاح بيد سلطته (المهيمنة) تحت ضرورة (مصالح البلاد العليا)، كما يعمل على تشتيت خصومة بين السجن والقتل أو الإقصاء والتهجير من البلاد وتحت مسميات مختلفة لـ (مؤامرات مزعومة).

4 - تقتصر تسمية (الدولة) بتسمية الطاغية، فلم يعد هناك تاريخ الا تاريخ الطاغية، فتنسحب حياة الطاغية على الماضي والحاضر والمستقبل فالآداب والثقافة عموما هي ثقافة الطاغية، وتسخر موارد الدولة لتخليد الطاغية، فلم يعد بلد الطاغية تسع طموحاته، فيعمل من خلال (الماكنة الإعلامية) على  جذب أقلام من دول أخرى للكتابة عن الطاغية حتى يصبح (طاغية العصر)، ولن تنتهي حياة الطاغية الا من خلال تدخل دول أخرى فلا يسقط الطاغية وحده فيسقط (للأسف) الشعب والوطن مع الطاغية. وهذا ما يخشاه (أورتيغا إي غاسيت) من (صول الجماهير إلى سدة السلطة).

عرض مقالات: