غالباً ما تطرق أذهاننا عند ذكرأسم كامل شياع دعوة أفلاطون (الفضيلة هي المعرفة) أن خيراً موضوعياً يمكن معرفته والوصول إليه بالفحص العقلي أو المنطقي أكثر مما هو بالبداهة أو الحدس، فالفرد الذي تتوفر له المعرفة، ينبغي أن يتمكن من الاستحواذ على سلطة نافذة في الحكومة وأن يكون مؤهله الوحيد لتلك السلطة هو المعرفة. لقد أولى كامل شياع لموضوع المعرفة أهمية حيث تتصدر جميع أطروحاته أدوار وفئات المثقفين ضمن الواقع السياسي والإجتماعي للعراق .

دور الثقافة: يجد كامل شياع أن السلطة الشمولية مارست طيلة مدة السنوات الـ35 من حكم الحزب الواحد دورين: تضليل الوعي وتشويهه. فالكتاب والفنانون والنقاد الذين خالفوا مسلمات وشروط السلطة السابقة واجهوا مشاكل حقيقية فاختاروا الصمت أو الهجرة فالخطورة كانت تأتي من التسييس القسري للحقل الثقافي وتوظيفه لصالح أيديولوجية السلطة، مما أدى إلى فقدان الخصائص الأساسية للثقافة  وهي الإبداع والمخالفة والاجتهاد.

والثقافة بوصفها مجموع النتاجات الفكرية والعلمية والفنية هي التي تصنع شخصية الشعب. فالمواطن العراقي الذي يمتلك حداً معقولاً من المعرفة بواقع مجتمعه وتاريخه مثلاً، يجد جزءاً أساسياً من ذاكرته التاريخية المعاصرة مجسدة في نصب كنصب الحرية للفنان جواد سليم، ان ما تفعله الثقافة في الواقع هو إيجاد فرص للتماهي بين الفرد ومجتمعه، ومن ثم صناعة ذاكرة مشتركة وهوية تجمع الشعب ضمن زمان ومكان فعليين أو رمزيين، وضمن فضاء تخيلي للواقع والتاريخ.

الواقع العراقي والوعي الماضوي: ماذا كان انطباع كامل شياع عن العراق بعد غياب دام  (25) عاما وعودته إلى بغداد؟

يذكر شياع عن عودته للعراق (عدت إليه فوجدته يمضي في متاهة تاريخية، لا يمكنها أن تكون إلا مؤقتة. وأنا أحد شهودها: أعيش تذبذباتها، أراقب تقلباتها، أتفاعل مع تفاصيلها، وأثير أسئلة حولها، وأراجع قناعات بشأنها، وأكوّن أحكاماً عنها. أنني منغمر بتجربة غيـّرت حساسيتي إزاء كل ما يحيط بي. فما عادت تستوقفني كثيراً الأفكار المسبقة والمقارنات الجاهزة والرغبات التي تعظ بما ينبغي أن تكون عليه حالة الأشياء).

ويقول متأملا حالة العراق أيضاً (أجدني أقرب على رأي من يعد المفاجآت تأتي من الماضي لا من المستقبل. والماضي الذي أقصده هو الذاكرة الجمعية حين تنقلب على نفسها فتكون سبباً للفرقة والتنازع ومسوغاً للانغلاق على الذات والريبة بالآخر هذا ما صرنا نلمسه في العراق المنجرف بتيار اللاوعي السابح فوق حركة التاريخ وأحواله المتقلبة، محرضاً ولاءات “ طبيعية” تستثمرها أحزاب وحركات وتكتلات سياسية محولة التضامن إلى أرضية للنزاع).

أن الماضي المستعاد جعل من العراق، الوطن والتاريخ والشعب، ضحيته الأولى، ونازع إلى إحداث قطيعة أعمق ليس فقط مع (فكرة الحزب الواحد والقائد المخلص والرسالة الخالدة) ، بل مع إرثنا الثقيل من الفكر الاستبدادي المتراكم من عصور غابرة.في إثارتها للفتنة والبلبلة تعادل الذاكرة نسيان التاريخ. لهذا، فلا ذاكرة الجلاد الناكر لمسؤوليته، ولا ذاكرة الضحية الناطقة بمظلوميتها تعيننا على تلمس الحقيقة.

فقد عاد الى بغداد وهي وكما يقول: الموت في مدينة كبغداد يسعى إلى الناس مع كل خطوة يخطونها، فيما تتواصل الحياة مذعورة منه أحياناً، ولا مبالية إزاءه في أغلب الأحيان. ما أكثر لافتات الموت السود في المدينة؟ كمْ من الناس واسيت بفقدان أب أو إبن أو أخ أو قريب؟ كمْ مرة قصدت مجالس التأبين معزياً؟ كمْ مرة وجدت نفسي عاجزاً عن إظهار تعاطفي مع ذوي الضحايا البريئة المجهولة لي؟ كمْ بكيت في سري حزناً على مشاهد الدماء المسفوكة في كل مكان؟ بعد هذا الانغمار المكثف في وقائع الموت وأخباره، يسألني البعض أحياناً، ألا تخاف من الموت؟ فأجيب، أنا الوافد أخيراً إلى دوامة العنف المستشري، أعلم أنني قد أكون هدفاً لقتلة لا أعرفهم ولا أظنهم يبغون ثأراً شخصياً مني، وأعلم أنني أخشى بغريزتي الإنسانية لحظة الموت حين تأتي بالطريقة الشنيعة التي تأتي بها.

إن نتائج سيادة الوعي الماضوي  يتمثل في النقاط الآتية:

1.حضور الماضي وهيمنته الكاملة على نواحي  الذاكرة الجمعية فيكون سبباً للفرقة والتنازع ومسوغاً للانغلاق على الذات والريبة بالآخر ورفضه.فتقود هذه الأوضاع إلى استثمارها من قبل أحزاب وحركات وتكتلات سياسية لخلق أرضية للنزاع تكون الهيمنة التامة لهذه (الأحزاب والتكتلات السياسية )على جميع اوجه الصراع.

2.الرفض العام للأوضاع التي تفرضها المتغيرات (السياسية) والتمسك بخيارات الماضي بصيغة صلبة لا تقبل قبول الأخر، والتي تقود إلى انعدام تطبيق وسائل أحكام الدستور (سيادة حكم القانون) و(التبادل السلمي للسلطة) و (الانتخابات هي الوسيلة الديمقراطية لإسناد السلطة ).

  1. يادة لغة العنف وجعل العراق ساحة للصراع نتيجة التمسك بالهويات الدينية والطائفية والإثنية ، والتمسك بالخطاب السياسي حيث يعمد إلى إجترار عذابات الضحية، وإستغلال الرضوض النفسية التي تستفز الأحياء أو تخطف منهم وعيهم.

دورالمثقف: يجد كامل شياع ان دور المثقف يتبلور في مواجهة العنف والتبشير بقيم السلام والتسامح وهذه مهمة لا  تنفصل عن ممارسة المثقف لدوره كمنتج ومبدع للقيم، فتكون مهمة المثقف في هذه الظروف التي يمر بها العراق توحي بدور تعبوي، قد لا يكون بالضرورة من أولويات ممارسته لوظيفته الإبداعية والفكرية، وفي هذه الحال فان رجال الإعلام والسياسة إذا ما صنفوا في خانة المثقفين يضطلعون بدور أكثر فاعلية، أو على الأقل أكثر مباشرة في التصدي لمهمة يومية، كمواجهة العنف والإرهاب والتعصب والصراعات على الهوية الطائفية وحتى الدينية. من خلال النقاط الآتية:

  1. جعل الصراع يدور في أطارالمسألة الوطنية... صراع حول ماهية المجتمع السياسي الذي ينبغي إقامته، ومستقبل الدولة الوطنية، وعلاقة الأطراف بالمركز، ومفهوم السلطة والمواطنة، والحقوق والحريات ، وتنظيمها بقانون وهي:

أولا: حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل.

ثانياً: حرية الصحافة والطباعة والإعلان والإعلام والنشر.

ثالثاً: حرية الإجتماع والتظاهر السلمي.

2.الايمان ليس هناك في العراق بديل أفضل من الشراكة لإعادة بناء الدولة الوطنية المتعددة ثقافياً وأثنياً، وليس هناك بديل عن تقييد التسييس المنفلت للهويات الفرعية. فالهوية الوطنية، والحالة هذه، تستلزم تعزيز عملية الدولنة، أي تمكين الدولة من إحتواء مجتمع متعدد الهويات والأعراق، وتحديث الولاءات التقليدية الثقافية والأثنية. وهذا يعني إرساؤها على ثقافة سياسية مدنية مصدرها الإنسان كوجود وقيمة، وحقوق الجماعات المختلفة، ثقافة تعاقد وتعايش تتسع للتنوع والخصوصيات المحلية.

  1. الأبتعاد عن مغالطة إسقاط سياق على آخر، حيث تؤخذ الديمقراطية كوصفة جاهزة قابلة للتصدير. لا يكفي مثلاً أن تتوفر حكومة منتخبة، ومجتمع مدني ناشط وشركات متعددة الجنسيات لقيام نظام ديمقراطي. وتجارب “الهندسة الإجتماعية” من هذا النوع لا تأتي إلا بنتائج عكسية على المجتمع وعلى المشاريع “الثورية” لدمقرطته. وليس سوى عقلية براغماتية سطحية، كالتي تتبناها الإدارة الأمريكية، بوسعها الاطمئنان إلى أن نشر الديمقراطية سيخدم غاية أبعد منها كمكافحة الإرهاب. والأرجح أن المعركتين ستنتهيان بالخسارة.

ولو كانت الديمقراطية هي المرغوبة بذاتها لاقتضى الأمر تهيئة شروط تحققها.

  1. إن الديمقراطية والمواطنة تستوعب الآخر ولا تقصيه فتكون قابلة للاتساع دائماً، كذلك هي الهوية. فهي، وفق هذا التصور، حصيلة شبكة علاقات فعلية، وأفق يفضي إلى ما هو غير متحقق بعد. إنها إقامة في العالم تنبذ كل ما هو حصري ومقيِّد، وغاية لا تبلغ ذاتها، ومشروع متجدد يعيد فهم الماضي ويتجاوزه مرة تلو الأخرى. هكذا هي الهوية: بداية دائمة وجدل لا ينقطع. وهكذا ينبغي لها أن تتجسد في العراق اليوم كي تطلق صراع الواحد والكثرة، وتعيد تشكيلنا ككائنات سياسية وكذوات ثقافية.

نحن إذن أمام دعوة كامل شياع وهي (النسيان وإعادة البناء المعرفي- الثقافي) حيث تقع  هذه المسؤولية على عاتق المثقف ، فهذه الدعوة تلتقي مع أفكار بول ريكور في كتابه ( الذاكرة ، التاريخ ، النسيان) الذي تمثلت في صورعديدة منها (العفو العام) الذي يُنهي فوضى سياسية خطيرة تؤثر في السلم الأهلي – الحرب الأهلية ، الفترات الثورية ، التغيرات العنيفة للأنظمة السياسية ، فهو نسيان ماضي قام حوله المنع والابتعاد عن (التذكير بالمساوئ”المصائب”) ونسيان الشقاق والخلاف .والانتقال إلى مرحلة (الغفران) بين قطبي (الذنب والغفران) عبر مسيرة الغفران التي تطول وتتطلب خطوات كثيرة و واثقة مع الايمان ان النسيان هو قوي بقدر ما هو قوي نسيان المحو.

عرض مقالات: