تحل علينا هذه الأيام الذكرى السابعة والستون لثورة 14 تموز 1958 المجيدة، ويحتفل بها التقدميون والوطنيون العراقيون، لا من أجل الاحتفاء والتذكير بها فحسب، وإنما من أجل استلهام دروسها، وشروط نجاحها التي أطاحت بالنظام الملكي الرجعي، الذي شكل عقبة كأداء في طريق نهوض الشعب العراقي وتأمين مستقبل لائق به، ومن أجل ان تكون ذكراها ملهما للعمل الفاعل نحو التغيير الشامل وتحقيق إرادة الشعب.
في السنوات القليلة التي سبقت الثورة، كان واضحاً أن المجتمع العراقي مقبل على تحول نوعي جديد، بسبب الحجم الهائل للظلم الاجتماعي والاضطهاد السياسي، وديمومة القمع والقسوة المفرطة في التعامل مع طموحات وتطلعات الغالبية العظمى من أبناء الشعب العراقي.
كانت الأقلية الحاكمة في العراق تسبح ضد التيار، وتسعى بكل قواها إلى ربط البلاد بالأحلاف العسكرية الاستعمارية، وخاصة حلف بغداد، بعد بطشها بالشعب وقواه الوطنية والديمقراطية، لكنهم لم يكتفوا بذلك، بل استمروا في عدائهم وتآمرهم ضد الدول العربية، التي نالت استقلالها وسعت لتعزيز سيادتها الوطنية.
وعلى الصعيد الاقتصادي- الاجتماعي تعمق التمايز الطبقي. وكان العامل الرئيسي في إفقار الفلاحين اتساع عملية الاستيلاء على الأراضي الزراعية من قبل الملاكين الكبار والاقطاعيين، وبالتالي هجرة مئات الآلاف من الفلاحين إلى المدن. وحتى مشاريع مجلس الإعمار جاءت لمصلحة الاقطاعيين. كما أهملت الصناعة الوطنية بذريعة ضعفها، وعدم قدرتها على منافسة الصناعة الأجنبية المستوردة، فكانوا يدافعون عن مصالح الشركات الاحتكارية الأجنبية، التي ظلت تحتكر معظم تجارة التصدير والاستيراد، بالتعاون مع بعض التجار المحليين الكبار، حتى ثورة 14 تموز، ما أدى إلى ارتفاع أسباب التوتر والتذمر الشديدين في المجتمع العراقي، الذي كان يرزح تحت ثقل الثالوث المقيت المتمثل بالجهل والفقر والمرض.
ومارست الحكومات المتعاقبة في العهد الملكي سياسة العنف المنفلت، ضد التظاهرات السلمية، وارتكبت الكثير من المجازر الدموية، فضلاً عن مصادرتها الحريات السياسية والفردية، وأطبقت سجونها على الآلاف من مناضلي القوى الوطنية، لاسيما من الشيوعيين والديمقراطيين، وعمدت إلى استخدام أساليب التعذيب البشعة معهم، وإسقاط الجنسية العراقية عن بعضهم، وقاموا بإعدام المتميزين منهم، وفي مقدمتهم القيادة التاريخية للحزب الشيوعي العراقي (فهد- حازم- صارم).
نعم كانت بداية حركة 14 تموز انقلاباً تطور بسرعة قياسية إلى ثورة شعبية، غيرت بنية الدولة، وقلبت البنية الاجتماعية، وفتحت باب الصعود للفئات الوسطى، إلا أن الثورة لم تستكمل مسارها، الذي انقطع بفعل المؤامرات المتلاحقة، والانقلابات العسكرية المدعومة من الدول الامبريالية والرجعية، إضافة إلى الأخطاء القاتلة، التي وقعت فيها قيادة الثورة، ومنها إبعاد ممثل العمال والفلاحين الحزب الشيوعي العراقي عن المشاركة في الحكم، رغم دوره الفعال والحيوي في التحضير للثورة وتنفيذها.
وخلال الفترة القصيرة التي لاتتجاوز الأربع سنوات ونصف من عمر ثورة الرابع عشر من تموز حققت انجازات ومكاسب وطنية كبيرة، مازال العراقيون يتذكرونها بفخر واعتزاز، ويقارنونها بـ (إنجازات) الأنظمة الدكتاتورية والاستبدادية، التي أعقبت سقوط الجمهورية الأولى من دمار وخراب شاملين، وعداء مستحكم للشعب العراقي طيلة ما يربو على الستين عاماً. وفي مسعى لطمس معالم الثورة ودلالتها يتنكر البعض اليوم لتلك الإنجازات الكبيرة.
لقد كانت الوحدة الوطنية المتينة، والسعي الحثيث لإقامة نظام ديمقراطي حقيقي في العراق يضمن ويجسد مصالح وحقوق العراقيين دون تمييز أو محاباة، والاستعداد للنضال والتضحية في سبيله، فضلاً عن أهمية التعاون والدعم المتبادل والتحالف الجدّي والواسع بين القوى السياسية الوطنية، هو الدرس الأهم في ثورة الرابع عشر من تموز، والذي تزداد أهميته القصوى وضرورته في ظل الظروف المعقدة والعصيبة، التي يعيشها الآن عراقنا الحبيب وطناً وشعباً، وفي أجواء الصراع على توجهات بناء الدولة، وآليات إدارتها، حيث تتعمق ملامح الأزمة البنيوية الشاملة بفعل المحاصصة والطائفية السياسية والفساد والسلاح المنفلت، وتتعدد مظاهر تفكك الدولة، وغياب سلطة القانون والسيادة الوطنية، وضعف البنية التحتية، وغياب مبدأ تكافؤ الفرص، وفقدان الثقة بالدولة ومؤسساتها وانزلاق شرائح جديدة نحو البطالة والفقر والعوز، وتفاقم التفاوت الاجتماعي، مقابل أقلية ضيقة تحكم قبضتها على مفاصل السلطة والثروة، واحتكار أدوات القوة والمال والسلاح والإعلام، وخلو قاموسها السياسي من الرؤية الوطنية الشاملة، مستبدلين إياها بالولاءات الفرعية.
إن هذه القوى والأحزاب المتنفذة عاجزة تماماً عن تقديم حلول حقيقية، ومتمسكة بضراوة بنهجها الفاشل، ساعية للتكيف مع الأزمة لا تجاوزها، الأمر الذي يؤكد الحاجة الماسة إلى بلورة مشروع بديل وطني ديمقراطي، أساسه المواطنة، والعدالة الاجتماعية، والدولة المدنية، دولة المؤسسات القادرة على فرض القانون على الجميع، وخدمة المواطنين، وإعلاء قيم وحقوق الانسان. وهذا المشروع النبيل لا يمكن أن يتحقق من دون تعبئة جماهيرية واسعة، وعمل سياسي منظم، تقوده القوى التقدمية والديمقراطية، والحركات الاجتماعية والنقابات والاتحادات، وكل القوى المؤمنة بإمكانية التغيير.
ولابد من التأكيد بأن المشاركة الفاعلة في الانتخابات البرلمانية القادمة تشكل إحدى أدوات التغيير المنشود، لكنها ليست كافية ما لم تقترن بحراك شعبي متواصل، وضغوط سياسية مستمرة، ووعي جمعي قادر على تجاوز الولاءات الضيقة، وتغليب المصلحة الوطنية العليا. وهذا يوجب على القوى الوطنية والديمقراطية والمدنية، أن تعزز وتفعَِل تحالفاتها واصطفافاتها، وتوحد خطابها وأهدافها لتكون بمستوى المسؤولية، والقدرة على التغيير.
آن الأوان لكل من يعز عليه العراق، وله مصلحة في التغيير الشامل، أن يساهم في الانتخابات القادمة بنشاط وفاعلية، وفي الحراك الجماهيري المتنامي، دون انتظار لمعجزة سياسية، فالمعجزة الوحيدة، هي المشاركة الفاعلة في كل تفاصيل الحراك الجماهيري القادرة فعلاً على اقتلاع منظومة المحاصصة التي دمرت بلدنا، ودون التعويل على التدخل الخارجي الذي أثبت فشله، فالقوى الدولية لا يهمها سوى مصالحها، ولو كان ذلك على حساب الديمقراطية وحقوق الانسان وسيادة البلاد واستقلالها. كما أن التمنيات لوحدها دون مشاركة جدية في النضالات الجماعية والجماهيرية غير كافية بالمرة، وقيل في الأمثال "لو كانت الأماني خيولاً لركبها الشحاذون".
المجد للذكرى ٦٧ لثورة تموز المجيدة
المجد للشهداء وقادة الثورة الامجاد
إرادة شعبنا هي المنتصرة
اللجنة المركزية
للحزب الشيوعي العراقي
أواسط تموز ٢٠٢٥