اخر الاخبار

في منتصف ستينيات القرن الماضي وحينما كان عمري لا يتجاوز الأربع سنوات كنت أشاهد أبي في مثل هذه الأيام يجلس وسط (الحوش) كل ليلة يرنو للقمر طويلاً ، ويسرح بعيداً حيث تترقرق الدموع في عينيه ليظل ساهماً فترة، ثم يمسحها ويهزّ رأسه مترحماً لا أعرف على مَن ساعتها .

مرّت سنة وأخرى وهو على هذه الحالة كلما جاء شهر شباط ، وما أن بدأت أعي الأمور جيداً ولكي أبدد حيرتي واستغرابي مما يفعله سألت أمي فأجابتني :  انه يبكي رجالاً يسكنون القمر !

اندهشت من جوابها وازدادت حيرتي كثيراً لأعيد سؤالي : ومَن هم هؤلاء الذين يسكنون القمر ؟!

فأجابتني بتنهيدة وحسرة : في مثل هذه الأيام  من عام 1963 هجم الأشرار على رجال كانوا يحبّون  الوطن والناس، ويسعون لإسعادهم من خلال تفانيهم في خدمة الشعب والوطن بنزاهة وإخلاص وأمانة لا مثيل لها ، واستطاع الرجل الذي كان يترأسهم بمدة قصيرة من حكمه أن يبني المدارس والمصانع والمستشفيات والشوارع والبيوت ويزيد رواتب العمال والموظفين ويلغي الإقطاع، فازدهرت الحياة الاجتماعية والاقتصادية  والعمرانية وبات الناس فرحين تشعّ السعادة من عيونهم وتعلو الابتسامة وجوههم . لكن الأشرار وأصحاب القلوب السوداء لا يتركون الناس بسعادتهم وحريتهم. فغدروا بالطيبين وأشاعوا الخراب والرعب وسفك الدماء بانقلابهم الأسود، ليعيثوا فسادا وقتلا في طول البلاد وعرضها ، ويجرجروا الشباب والرجال والنساء إلى المعتقلات والسجون والإعدامات، فخيّمت غيمة سوداء على الوطن ، وصار الناس يترقبون القمر كل عام لظنهم إن الزعيم وكل الشهداء يسكنونه، لأنهم أقمار خير ومحبة وسعادة أشرقت ذات يوم على الوطن ولابد أن يكون مكانهم القمر.

ومنذ تلك اللحظة انفك لغز حزن أبي وبكائه صمتاً وهو يرنو للقمر في مثل هذه الأيام ، فبقيت أشاركه الحزن وألملم كلّ آهةٍ ونأمةٍ تصدر عنه، لأحفظها وأنقشها على صفحة ذاكرتي.

مرت السنون ورحل أبي مع القمر ذات صباح لتلحقه أمي أيضاً ، وبقيت تلك الذكريات تداعب مخيلتي  ، فصرت أرنو للقمر وأتخيل وجوهاً باسمةً وعيوناً تشعّ سعادة تنظر لي  بين  تضاريسه.

ثم انقشعت الغيمة السوداء قبل أعوام واستبشر الناس خيراً بزوال الطاغية وهلّت الفرحة، لكنّها لم تدم إذ عمَّ الفساد والخراب والمحسوبية والطائفية وسفك الدم وصرنا في بحرٍ تتلاطم أمواجه لترمي بنا على جزرٍ مليئة بالوحوش والعفاريت، ولم ينقطع الدم عن الجريان على إسفلت الشوارع وبين الأزقة والبيوت والأسواق وكأننا قد كُتِبَ علينا أن نظلّ على سفرٍ دائم للقمر.

ويبدو اننا سنظلّ نرنو للقمر ونناجي الأرواح التي تسكنه قائلين : إن الوطن لم يهدأ منذ تلك الأيام حتى هذه اللحظة ، فمتى يكفّ الفاسدون الأشرار عن قتلنا وسرقة الوطن يا ترى ؟!

عرض مقالات: