شيئا فشيئا تنقرض حدائق البيوت الأمامية والخلفية في بغداد، لتحل مكانها بيوت صغيرة بمداخل ضيقة تشبه أقنان الدجاج .
وتعلو هذه البيوت التي لا تزيد مساحاتها عن خمسين أو حتى ثلاثين مترا، لتُبنى فوقها شقق صغيرة تحتل طابقين ثاني وثالث، مشكّلة عمارات مصغرة تفتقر غالبا الى سلالم كهربائية لمساعدة سكانها من المرضى وكبار السن على الصعود، فضلا عن تعذر وصول الخدمات الأساسية الكافية اليها من ماء وكهرباء.
هنا يبدو من البطر الحديث عن الناحية الجمالية للبناء العمراني في بغداد، فأغلب من لجأ لبناء هذه العمارات مضطر لتوفير سكن لإفراد أسرته، الذين تزايدت أعدادهم بعد تزويج الأبناء ، أو لغرض الاستثمار التجاري وكسب المال.
ولعل الدافع الرئيس هنا هو ارتفاع أسعار الأراضي الى مستويات خيالية في اغلب المناطق حتى الشعبية منها، أما في المناطق "الراقية" ورغم افتقارها أيضا للخدمات اللائقة من نظافة وتأمين ساحات وفوق للسيارات وغيرها، فقد ضربت أسعارها أرقاما قياسيا لم تشهد البلاد مثلها سابقا، لتصل إلى نحو 3 آلاف دولار وأكثر للمتر الواحد.
جوهر الموضوع عبّر عنه الفيلسوف الايرلندي الشهير برنارد شو عندما سُئل عن الرأسمالية فأشار إلى لحيته الكثيفة وقال: غزارة في الإنتاج، ثم مسح بيده صلعته وقال: وسوء في التوزيع!
والعلّة ترجع بحسب توضيح المعمار المعروف موفق الطائي إلى عدم تنفيذ التصميم الأساسي للعاصمة من قبل أمانة بغداد، والذي يتطلب توفير عدد معين من هكتارات الأرض دون التجاوز عليها، مراعاة لطاقتها الاستيعابية بحسب التصميم الأساسي لبغداد، الذي وضعه معماريون عالميون، منهم المعماري الياباني "يمادا" الفلسطيني الأصل، الذي وضع التصميم الأساسي لمدينة بغداد عام 2014 وقبلها وضع تصميمي مدينتي الرياض وبيروت.
وبحسب تصنيف الأمم المتحدة، كما يضيف الطائي، ينبغي ان يتوفر لكل فرد داخل أي مدينة 9-14 مترا من الأرض المفتوحة، بينما لا تزيد المساحة منها للفرد العراقي عن 5-6 أمتار فقط ، أي بفارق ثلاثة أمتار مربعة عن حق الإنسان المنصوص عليه دوليا.
ولتبرير ذلك قيل إن ذلك النقص سيعوض بحزام أخضر يحيط بغداد. لكن حتى هذا الحزام تم التجاوز عليه بالكامل.
كذلك من المفروض بحسب تخطيط "يمادا" الا تقل مساحة أية قطعة أرض سكنية عن 200 مترمربع، ولا يجوز ان يبنى عليها أكثر من وحدة سكنية واحدة. وأن يتضمن كل بيت مساحة مفتوحة، حيث لا تتجاوز نسبة البناء 60 بالمائة من المساحة الكلية. لكن ما يحدث حاليا عكس ذلك، ما يؤدي لتراكم الوحدات السكنية داخل بغداد، بينما تتوفر مساحات مفتوحة شاسعة خارجها يُفترض استثمارها بعيدا عن التكدّس، مثلما يتكدس الشعر في لحية السيد برنادشو.