فاجأني صديقاي الأسبانيان العراقيا الأصل بزيارتي في فندقي بالعاصمة مدريد، حيث توقفنا ليومين أثناء جولة في أنحاء إسبانيا، ضمن مجموعة سياحية متعددة الجنسيات، كنت العربية الوحيدة فيها.
الأكثر إمتاعا لي كان التعرف على طبيعة الناس وأحوالهم في ذلك المكان القصي جغرافيا، القريب من القلب، والذي يشعرك بالتواصل معه عبر جذور تاريخ مشترك. حتى مرشدتنا السياحية قالت وهي تحدثنا عن عهد الخلافة في الاندلس: "احتلنا المسلمون 800 سنة، ففي عروقي تسيل دماء مشتركة!". أما صديقاي فحدثاني عن ثلاثة أشياء تشكل أهداف المواطن الاسباني أو الأوروبي بشكل عام. ما هي أرجوكما؟
أجابا: الصحة، الحب ، المال.
كيف؟! لعلها وصفة الحياة السعيدة. قلت ذلك ساخرة.
نعم، فالصحة يجب أن تبقى داعمة لطول العمر الذي تنشده النساء أكثر من الرجال! ومن غير اللائق أن تسأل المرأة عن عمرها، وإن كنت تعلم مسبقا إنها تجاوزت السبعين بسنوات! فنشاطها المتواصل منذ صياح الديك وهي تصعد السلالم الجبلية نحو بيتها في قمة الجبل، وسعيها الدؤوب الى جلب مستلزمات منزلها بنفسها دون منّة من أحد، يذكّران الآخر دائما بوجوب احترام إيمانها بالصحة، حتى تتناوش المائة من العمر بلا عناء ولا زيارات متكررة للطبيب. فغذاؤها يخلو في الغالب من الدسم، ويحفل بالأعشاب الطبيعية وثمار البحر بعيدا عن اللحوم الحمراء. بل أن تناول لحم الضأن يعتبر"سُبَّة" بسبب احتوائه على شيء من الدهون .. وفي عيد الميلاد العشرين للشاب يقال له: "قضمت الربع الأول من عمرك على الطريق نحو المائة".
اما الحب فأمر مقدس لا يقف أمامه عائق. ومن دواعي حزن الابن ان لا تعثر أمه المطلقة أو الأرملة على حبيب يؤنس وحدتها، ويوقد فيها الفرح .. وكثيرا ما تحتفل دور العجزة بأعراس جديدة لقاطنيها.
وأما المال فهو الحلال المكتسب بعرق الجبين، في بلدان تُلزم مواطنيها بقوانين صارمة، يكسبه الشباب وإن كانوا أبناء أثرياء، بسعيهم وكدهم "بويات" او غسّالي صحون أو سيارات آو أي شغل خدمي خارج أوقات الدراسة، ولكل منهم سكنه الخاص وحياته الشخصية المستقلة التي يدافع عنها بصبر، فهي تعادل معنى وجوده! اذ لا حياة دون حرية واعية تُكتسب بالكد والجهد.
حماس الناس وشهيتهم للعمل، باعتباره ملح الحياة، وانفتاحهم على الآخر بلا عنصرية أو طائفية، رغم تباين وجهات النظر، وتعدد الأصوات .. هذه كلها تشكل سلة واحدة، لنظام اجتماعي وأخلاقي متسامح مبدع وخلاق.