نصف أنفسنا متفكهين بـ "جيل الطيبين" ، نحن الذين عشنا سنوات السبعينات الذهبية، بما فيها من ملامح مدنية ذات هوامش من التحرر والانفتاح، خلقت تذوقا سليما راقيا، وإحساسا مرهفا تجاه جميع أشكال الفنون.
كنا ولم نزل نطرب ونستمتع بتلذذ لألحان طالب القره غولي وكمال السيد ومحمد جواد أموري.. بأصوات شجية لحسين نعمة و فاضل عواد و ياس خضروسعدون جابر وقحطان العطار ورياض أحمد وغيرهم ، يتغنون بكلمات قصائد عميقة رائعة من الشعر الشعبي والفصيح لمظفر النواب و لكاظم اسماعيل الكاطع ولكريم العراقي، والقائمة تطول...
وحملت أغاني الأفراح والمناسبات حينها حسا إنسانيا شفافا، يطرب الأسماع وينعش الذاكرة بشغف المحبة والوله والإخلاص والوفاء ..
لا أدري لماذا لا نستذكر اليوم في مناسبات الخطبة والأعراس مثلا أغنية " نيشان الخطوبة" للفنانة لميعة توفيق ، أو" حنة حنة بيدها" لسليمة مراد أو بأصوات أخرى لسعدي البياتي أو لفرقة الإنشاد؟ أو نستمع مثلا لأغنية " زفوني زفوني.. وعلى الورد مشوني" لصباح؟ّ!
أغنيات الفرح بسعة محبة الكون لو شئنا البحث والتقصي عنها، وبما ينعش أرواحنا بمفردات وألحان تمجد إنسانيتنا، وتضيء دروبنا بومضات من الأمل والفرح تضيف لأجواء احتفالاتنا مرحا وخفة.
أصبحنا اليوم خاضعين مُكرهين في حفلات الأعراس والمناسبات السارة لضجيج أغنيات مشوهة، لا الحان لها سوى نغمة واحدة بإيقاع سريع يشتت مفرداتها، وإن أنصتنا لها بتمهل سنكتشف "بلاوي" تمجد الكوارث بدلا من الأفراح .. وإلا مثلا ما معنى أغنية، " خبزك خبز العباس لا تتوانى" بما فيها من رمز ديني من غير اللائق ذكره فيها، أو أغنية" جيناك بهاية ، إحنا الوضاية " لغزوان الفهد ونور الزين اللذين يظهران مدججين بالأسلحة في فيديو كليب مشهور يقول:
" جيناك الليلة يمعدل الميلة / ويالحجيك جيلة.. والغثك ياويله عبرة نسويله/ بس اشر بيدك ونشوف/ نجيبه العندك مجتوف / إحنا الصاحب منعوف / احنا المابينا مخربط / بينا اليندك يتورط/ نيشن صح وما نغلط / ومانغلط بالكصة نحطها ومانغلط"..
اكتسبت هذه الأغنية صفة " الترند" كما يقال في التصنيفات المتقدمة للإستماع والمشاهدة، يتراقص على لحنها المحتفلون من دون أن يعوا كلماتها بالتأكيد، وإلا ما فائدة الفرح إذا كانت هناك " جيلة بالكصة نحطها وما نغلط؟!"
يبدو ان هناك نوستالجيا (حنين) للحروب وللمعارك يتخذ حيزا كبيرا من ذاكرة العراقي ، ينزع اليها وإن كانت مترعة بالدماء. وإلا ما تفسير الحنين والرقص على نغم النشيد الحربي: "ياكاع ترابج كافوري" الذي روج لحروب الطاغية، وضحك على عقول المندفعين اليها؟
وكأن الفن العراقي توقف عندها وعند تفاهات أغاني العنف والشراسة الأخرى، الشائعة اليوم في الأفراح والمناسبات السعيدة، في ظاهرة ٍمؤسفة وسمةٍ من سمات تردي القيم الأخلاقية، المحفزة لبناء مجتمع سليم رافض للحقد وللبغضاء، وداعٍ للتصالح وللتآخي و للسلام.