حينما قرأت رواية البؤساء لفكتور هوجو كان عمري وقتها لا يتجاوز العشر سنوات تألمت كثيراً على بطلها (جان فالجان) وما قاساه من عقاب وسجن بسبب سرقته رغيف خبز ليسدّ به جوعه، لكنّني فرحت له وهو يأكل مجّاناً حدّ الشبع لسنوات بين القضبان وبقيَت ترنّ في أذني مقولته الشهيرة: عندما كنت جائعاً لا أجد قوت يومي سرقت رغيفاً من الخبز لأسد بعض هذا الجوع، عاقبوني وسجنوني لأظلّ سنوات يأتيني الخبز مجّاناً من قبلهم، يا للمفارقة الكبيرة!
تذكّرت هذه المقولة وأحداث الرواية، وانا اشاهد وأسمع وأقرأ ما يدور ويحدث من أمور كثيرة أقربها حملة ازالة التجاوزات وما لها وما عليها، والاحكام التي صدرت على لصوص القرن وقارنت ما بين هذا وذاك وجدتُ أن القوانين تطبّق على الفقراء الذين لا حول لهم ولا قوّة أبداً، صبيّ لا يتجاوز عمره اثني عشر عاما يُحكم بالسجن خمس عشرة سنة لسرقته علبة كلينكس فقط، ولصوص يسرقون أموال الدولة والشعب بصفقة تسمى سرقة القرن يحكمون عشر سنوات فما دون.. يا للمهازل، والمهزلة الكبرى أنهم ــ أقصد الفقراء وأولادهم ــ يكونون الوقود في الحروب التي يشعلها السياسيون والحكّام . فابن المسؤول يتنعّم بالحياة الرغيدة وابن الفقير يدافع عن الوطن الذي لا يملك فيه شبراً، والحقيقة المرّة هي انه لا يعرف أنه لا يدافع عن الوطن بل عن كرسي المسؤول وعرشه، ليظلّ متسلطاً على الرقاب!
حملة ازالة التجاوزات عمل منطقي ومشروع جداً لتنظيم بناء المدن على الطرق المعمارية الحديثة وانهاء العشوائيات والكل يقف مسانداً لهذا العمل القانوني بشكل جاد، لكن علينا أن نضع في حساباننا أن الكلَّ مشمولون بهذا الاجراء، لا أن نزيل بعض الاكشاك والمحلّات باعتبارها شيّدت تجاوزاً ونترك الارصفة وما عليها من تجاوزــ دعوة لكل مسؤول ان يسير في الشوارع الداخلية للمناطق والاسواق والمحلّات ليشاهد نسبة التجاوز على الأرصفة وكميّتها!
كذلك علينا كمسؤولين أن نفكّر أولاً بإيجاد سكن لائق للعوائل التي اضطرتها الظروف المعيشية وأزمة السكن الى اللجوء الى هذه الأماكن، وألا نجمع الكل في بوتقة واحدة هي الخروج عن القانون وما الى ذلك من صفات لا تليق بالعراقي الأصيل، لأن هناك عوائل محترمة جداً سكنت العشوائيات لا حول ولا قوة (اضطراراً). ولنعمل على تهيئة هذه الاماكن وبعد ذلك نخلي العشوائيات، وأنا على يقين تام أن هذه العوائل حينما تحصل على سكن لائق بها ستترك العشوائيات بكل سرور وممنونية!
مدننا لا تحتاج الى مولات وغيرها مما يجعل من طبقة في اعلى القمة انتعاشاً اقتصادياً وبورجوازياً، بقدر ما تحتاج الى انشاء مدن سكنية للفقراء وذوي الدخل المحدود لحلّ أزمة السكن، وتحتاج الى تشغيل الخرّيجين والعاطلين عن العمل، وانهاء ازمات الكهرباء والماء، وبناء مدن حديثة عمرانياً تتمتع بكل الخدمات، والقضاء على تجارة المخدّرات والفساد والمحسوبية والمنسوبية وغيرها، لا أن نطبّق القوانين على الفقراء فقط، تاركين اللصوص والفاسدين ومَنْ عاثوا في البلاد خراباً، يسرحون ويمرحون متمتّعين بكل شيء، ولندرك جيداً أنّ التاريخ لن يرحم أبدا!