ما أجمل أن يستعين المرء بنغمة شفافة تمس القلب وبجملة تعلق بالذاكرة، مع مجريات أحداث محتدمة دامت أكثر من تسعة عقود.. انه المناضل العتيد الراحل عبد السلام الناصري الذي دأب على كتابة مذكراته بعمر الواحد والتسعين عاما، مستعينا بجملة "صدى السنين الحاكي" لأغنية عبد الوهاب، ليصدر كتاب بعد وفاته بهذا العنوان مضافة اليه عبارة " أربعون عاما في النضال السري والجماهيري" وذلك ضمن منشورات دار سطور في بغداد وبواقع 180 صفحة.
كان على فراش المرض وقد تجاوز سنينه التسعين عندما زرته ذات يوم في بيته رفقة قريبته الروائية بثينة الناصري، وهالني ما تحلى به من فكر متقد لوهو يطرح قضايا سياسية وأدبية، وأكثر ما أثار فضولي إمساكه بكتاب سميك ذي غلاف جلدي عتيق، عرفت أنه قاموس للغة الروسية، وأنه يواظب على تعلم هذه اللغة واستعادة معلوماته عنها، بعدما درسها لفترة في الخارج.
يسرد في كتابه تاريخه الشخصي ونشأته في البصرة، رغم أصوله التي تعود الى تكريت والى عشيرة " ألبو ناصر"، معرجا على أولى مشاركاته في المسيرات الاحتجاجية في الثلاثينات في اعقاب المقتل المريب للملك غازي بحادث سيارة، مرددا مع الناس " الله واكبر ياعرب غازي انفكد من داره، واهتزت أركان السما من صدمته السيارة" .
ويرسم صوره لطيفة عن لقائه في صباه بالشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري في صحيفة "الرأي العام " وذلك في أوائل علاقته بالصحافة، ونشره أولى مقالاته وهو بعمر الخمسة عشر عاما.
لم يكمل دراسته وتوقف عند الرابع الإعدادي لينصرف الى كسب عيشه، ولتبدأ أولى علاقاته ومسيرته النضالية عند اشتغاله عاملا في ميناء البصرة، ومن ثم اجتذابه للحزب الشيوعي من قبل زميل له في الدراسة المتوسطة اسمه " ناصر سعد الخرجي"، وتعرفه على معنى الأول من أيار ولمَاذا يحتفل عمال العالم به. ثم ترشيحه للحزب من قبل ناصر نفسه في أيار 1941ليدشن مرحلة جديدة في حياته من النضال السري الذي دام نحو أربعين عاما .
يتناول الكتاب ظروف العمل الحزبي السري في البصرة، والاجتماعات التي كانت تعقد في أماكن مهجورة بعيدة عن الأعين، حيث حفظ وردد للمرة الأولى النشيد الأممي صحبة رفاقه.
ويتحدث عن الانشقاقات التي شهدها الحزب بسبب اختلاف الآراء والتوجهات ، ومنها انشقاق عام 1942 بقيادة الكاتب والقاص"ذو النون أيوب" وانضمامه اليه مدة لم تزد عن عشرة أيام، ثم عدوله عن ذلك بتأثير من المناضل الراحل "سامي نادر" والد زميلنا الصحفي المخضرم سهيل.
وعبر حياة كدح ونضال دؤوب عمل المناضل الراحل في أكثر من مجال وفي أماكن متعددة، ونشط في بث الأفكار الشيوعية وحث الطبقة العاملة على النضال من اجل مطالبها المشروعة. ساردا في الوقت نفسه مسيرة الحزب النضالية عبر أحداث جسام، مثل واقعة الجسر في وثبة كانون 1948 وصفحات النضال المشرّفة الاخرى، و راسما صورا مخيفة لتعرضه للملاحقة والسجن مرات عديدة.. ومع مرارة تلك المشاهد يسرد نكتا طريفة لمواقف حدثت مع المناضلين مثل قصة الرفيق جنجون حسين .
عاش المناضل الناصري حياة عسر وتقشف، وحتى في شيخوخته اشتغل عاملا بمعمل جلود بعد عودته من الخارج، وافترش رصيف شارع الرشيد ليبيع الخردة و" البلكات" الكهربائية أثناء فترة الحصار..
أخيرا يكتب: "أنا الآن أكتب وعمري 91 عاما وأغمض عيني الأغماضة الأخيرة، كما فتحتها في أوائل العمر على ماركس وأحزابه الشيوعية".