اخر الاخبار

قبل ثلاثة أيام استذكر الناس المعلّم، وكلٌ أدلى بدلوه عن الكائن الذي يشعل نفسه ليضيء الطريق للآخرين. وانشغلت مواقع التواصل الاجتماعي بهذه الذكرى، فعدتُ بذاكرتي لأيام خلت، عندما كنت تلميذاً أضع خطواتي الأولى على طريق العلم والمعرفة، وكيف كان المعلمون إبّان الستينات والسبعينات من القرن المنصرم قدوةً للناس جميعا، يكن الناس لهم احتراماً وتقديراً عاليين، لهم الحظوة ومنهم تؤخذ المشورة ويُستأنس برأيهم .

كان المعلّم شخصاً غير عادي بهندامه وتصرفاته وأناقته، وبأسلوبه في التدريس ومعرفته ونزاهته وكبريائه وهيبته.

كان النجم الذي يهتدي بنوره الآخرون، حيث العبارة المحكمة، والرأي السديد، إضافة إلى الثقافة والأدب والاتزان .

اذكر حين كنت في مدرسة الخليج العربي الابتدائية، في أقصى جنوب الفاو، كنّا نتسابق عند بدء الدوام لنحظى بخدمة معلمينا، من خلال استقبالهم قبل أن يصلوا إلى باب المدرسة، لأخذ درّاجاتهم الهوائية بعد أن يترجّلوا منها. كنّا نتقاسم درّاجاتهم، فدرّاجة أستاذ عدنان معلم الانكليزي لي، ودرّاجة أستاذ عواد معلم العربي لأحمد، ودرّاجة أستاذ جبار معلم الرياضيات لعلي، كانوا يأتون مهندمين ومتأنّقين بالبدلة (القاط) السموكن، والحذاء (القبغلي) والرباط المناسب للقاط.

كان المعلّم حين يدخل الصف تدخل معه المهابة والاحترام، فيسود الصمت والكلّ يُصغي بانتباه لما يقول، كما كان يجلب معه وسائل الإيضاح، ليعطي الدرس حقّه، بالإضافة إلى نظافة المدرسة من جميع جوانبها ومرافقها وحمّاماتها وما إلى ذلك.

اليوم .. المعلّم يشكو من عدم احترام الطلبة وعدم انتباههم وسوء تصرفاتهم، ومن عدم قدرته على إعطائهم دروسا في التهذيب والتأديب، لأنه سيتعرض إلى مشاكل وتهديدات من قبل أهلهم وذويهم،  قد تصل حد الاعتداء عليه!

اليوم نسبة المدارس الحكومية ضئيلة أمام الأهلية، حيطانها متآكلة، تشكو عدم الاهتمام وانعدام النظافة، مع تزايد اعداد الأهلية وطرق إغرائها  للمعلّمين والمدرّسين والتلاميذ وذويهم، ووصل الأمر حد نشر الأهلية إعلاناتها على جدران الحكومية ومقابل أبوابها بلا أدنى حسيب أو رقيب، بل وبمباركة من المسؤولين الذين انشأوا هذه المدارس!

وقد بدأ العدّ التنازلي للتربية والتعليم عندما وقف المعلّم في تسعينات القرن الماضي على الرصيف وفي الأسواق، يبيع السجائر ويشكو العوز والفقر، وينصياع لأوامر تلميذه المتمكّن ماديّاً .. ومن سيّء إلى أسوأ، حتى وصلنا إلى تردٍّ في كل شيء. وصار الطالب بعيداً عن معلمه، والمعلّم لاهثا وراء لقمة عيشه في خضمّ أزمات متزايدة ومتلاحقة، فضاع الخيط والعصفور!

لهذا حين يكون التعليم حقيقياً، ويجد المعلّم والطالب نفسيهما في وطن يحترم العلم والإنسان، سنجد معلّمنا الحقيقي الذي ضاع نتيجة الدكتاتورية والعسكرتاريا والحروب والفساد والمحاصصة المقيتة التي نخرت البلد. وعندها سنحتفل بعيده أسمى احتفال ..

وكلّ عام ومعلّمونا بألف ألف خير!

عرض مقالات: