يشهد الصحفيون والإعلاميون العاملون في الخليج دلالاً غير عادي في أيام شهر رمضان، إذ تنهال عليهم دعوات الإفطار أو السحور يوميا من أغلب المؤسسات والوزارات، ومن رجال الاعمال والشركات التي يغطون إخبارها في الصحف والمجلات. فهم يُستضافون عادة في مطاعم الفنادق ذات الخمس نجوم الراقية، كنوع من المكافأة عن أعمالهم الصحفية طيلة العام من جهة، وكنوع آخر من الدعاية الإعلانية للجهة الداعية، والتي ستظهر أخبارها وصورها في صحف ومجلات اليوم التالي.
في السنوات الأخيرة من عملي في دبي عشت هذه التجربة باذخة الرفاهية ولم اتخلف عن تلبية تلك الدعوات، فضلا عن اصطحابي أحدى صديقاتي أو أحدا من جيراني، لان غالبا ما تكون الدعوة لشخصين. ومع هذا البذخ لم تكن تعجبنا تلك الدعوات كثيرا ، أو ربما كنا نتدلل أكثر من اللازم ونُعرض عن تلبيتها. ولعلي هنا أتذكر طلب أحد زملائي مسؤول الصفحات الرياضية في الصحيفة التي كنت اعمل فيها، والذي كان يلح علي يوميا بتحضير طبق الشوربة من قبلي، والذي يفضله على كل ما يقدم في تلك الدعوات. ربما اللَّمة وجمع الأصدقاء في أجواء البيت هي الأفضل في كل الأحوال..
في أول يوم من رمضان الحالي أتصل بي الزميل نفسه من أمريكا، وبعد التهنئة الرمضانية سرعان ما سألني " وين الشوربة"؟ ضحكت وقلت له: سأرسلها لك عبر الأقمار الصناعية..
لكن البذخ والذكريات اللطيفة لا تمحي تفصيلات ذكريات الحصار اللئيم المأساوية، وأقصد حصار التسعينات ، فما زلت اتنغص كلما أطبخ الشوربة في رمضان، حين أتذكر ما حدث لنا في تلك الأيام السود، إذ كانت والدتي رغم توجهها اليساري ونشاطها الدؤوب في رابطة المرأة العراقية في الحلة، ومشاركتها في جميع فعاليات الحزب الشيوعي، لكنها توجهت للورع والصيام في أواخر عمرها لمدة ثلاث أشهر متتالية من رجب وشعبان ورمضان في زهد عجيب، ترفض فيه تقديمنا أي وجبة طعام أضافية غير طعام غدائنا الاعتيادي.
في يوم شتائي بارد من تلك الأيام العصيبة شحّ فيه عندنا أيّ مصدر من مصادر الطاقة، فلا كهرباء يكفي لتشغيل "الهيتر" الكهربائي، ولا غاز أو نفط عندنا.. حل المساء والوالدة صائمة. احترنا في كيفية إعداد الشوربة لها، أتذكّر لجوء أختي الكبرى لطرق أبواب الجيران واحدا تلو الآخر، طالبة قنينة غاز، ولم تحصل في النهاية إلا على بطل من النفط .. سارعنا بوضعه في الصوبة النفطية، وانتظرنا مدة ليست قصيرة حتى جهزت الشوربة!