لم يدر بخلدي يوما ما أن أكون شيوعيا، فأنا المنحدر من انتماء فلاحي وابن عائلة من صغار الملاكين لا يفكرون إلا في اتساع ملكياتهم أو في دفع أبنائهم للتطوع في الجيش أو الشرطة وبالتالي يحصلون على مركز للتسلط يوحي للقوة والنفوذ، إلا أن مغادرتنا القرية ونزوحنا إلى المدينة وأنا طفل صغير قرّبني من مفهوم المدينة وأبعدني عن تلك البداوة التي كنت أتلمسها في القرية، خاصة بعد الزلزال الكبير الذي حدث في ١٤ تموز ١٩٥٨! حيث تحولت محلتنا في وسط مدينة بعقوبة من اسمها القديم "الگنث " إلى محلة السلام وتم خط اسمها بشكل جميل جدا من قبل أحد شيوعيي المحلة على جدار الساحة الذي يتوسطها، ولينتصب فيها مسرح يتحلق أمامه في المساء جمع كبير من أعمار مختلفة لتقدم عليه عروض مسرحية هزلية لا تخلو من رسائل جادة.. المخرج والممثلون هم أبناء المحلة يتقدمهم الراحل أسعد سيد أحمد، الذي صار لاحقا مقدما لبرنامج تمثيلي اسمه السندباد.
ما أثار انتباهي وفي فترة مبكرة هو خلو معظم اسماء أترابي من لقب العشيرة وخلو أحاديثهم من أي إشارة طائفية، وبعضهم أصبح شيوعيا بعدها، مثل الراحل داود محمد شريف (اغتيل اثناء الحرب الطائفية) وصباح رحومي علو والراحل هادي ياس وأحمد حمد علو وغيرهم كثر.
ومن خلال هؤلاء وأحاديث بعضهم الشيقة عن الوطن والتضحية والشهادة من أجل قضاياه ومع تقدم العمر والتجربة والقراءات والبحث في التاريخ السياسي للعراق، تيقنت أن كل الانتماءات الفرعية لم تقدم للوطن أية معونة تساعده على النمو والارتقاء حتى وصلت لقناعة راسخة، وذلك قبل أكثر من 50 عاما، بأن الشيوعية هي أبهى صور تجل للوطنية، حينها قررت الانتماء لهذا الفصيل الكبير تجربة وتاريخا.