نشأت الماركسية في منتصف القرن التاسع عشر كاستجابة للتحولات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى التي أفرزتها الثورة الصناعية، وسعت إلى تقديم تفسير علمي للمجتمع ورؤية لتحرير الطبقة العاملة. ولهذا كانت، كإطار نظري وفلسفي، مرتبطة على الدوام بالحركات العمالية والنقابية.
النقابات العمالية في النظرية الماركسية
تُعرِّف الماركسية النقابات العمالية بأنها أدوات تنظيمية تهدف إلى توحيد العمال للدفاع عن حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية. وقد أشار ماركس في كتاب رأس المال، إلى أن النقابات تنشأ كضرورة لمقاومة استغلال رأس المال للعمال، وهي وسيلة لضمان حصولهم على حصة أكبر من فائض القيمة. ولهذا تُعتبر النقابات العمالية خطوة أولى نحو تشكيل الوعي الطبقي، وهو العنصر الحاسم في تحقيق الثورة الاجتماعية.
ويرى ماركس بأن النقابات، رغم أهميتها، ليست كافية لتحقيق التغيير الجذري، إذ يُنظر إليها كأداة للدفاع عن المصالح الاقتصادية المباشرة للعمال، لكنها تظل محدودة إذا لم ترتبط بنضال سياسي أوسع يهدف إلى القضاء على النظام الرأسمالي. ومن هنا، تناول ماركس تحويل الوعي النقابي إلى وعي سياسي وأقرن الحزب بالطبقة العاملة التي عرفها أساساً بموقعها الاقتصادي، وكشف عن طبيعة العلاقة بين الاقتصاد والسياسة وعلى وجه التحديد بين الصراع الاقتصادي للطبقة العاملة وتطور وعيها السياسي وتنظيمها.
وهناك عدة كتابات في هذه الفترة تشير إلى تبني ماركس الرأي القائل بأن (الوعي السياسي يظهر بشكل تلقائي من الأوضاع الاقتصادية والصراع الطبقي)، وهو ما أكد عليه في خطبة له أمام ممثلين من النقابيين الألمان عام 1869 حين قال (إن النقابات هي مدارس الاشتراكية. ففيها يعّلم العمال أنفسهم ويصيرون اشتراكيين، لأن الصراع مع رأس المال يحدث كل يوم على مرأى من عيونهم… إن غالبية العمال مهما كان انتماؤهم الحزبي، قد فهمت أخيراً أن وضعها المادي يجب أن يتحسن. ولكن بمجرد أن يتحسن وضع العامل المادي فسوف يستطيع أن يكرس نفسه لتعليم أطفاله، ولن يحتاج أطفاله وزوجته للذهاب إلى المصنع، ويستطيع هو نفسه تطوير فكره بشكل أفضل، ويولي صحته رعاية أفضل ويصبح اشتراكياً دون أن يلحظ ذلك".
النقابات بين الإصلاح والثورة
واحدة من القضايا الرئيسية التي أثارتها الماركسية هي ما إذا كانت النقابات العمالية قادرة على لعب دور ثوري أم أنها تقتصر على تحقيق إصلاحات ضمن النظام القائم. اعتبر بعض المفكرين الماركسيين، مثل روزا لوكسمبورغ، أن النقابات غالبا ما تنخرط في مساومات مع رأس المال، مما يؤدي إلى فقدانها لدورها الثوري. ورأت أن التركيز على تحسين ظروف العمل والأجور دون معالجة الأسباب الجذرية للاستغلال يؤدي إلى تعزيز استمرارية النظام الرأسمالي. على الجانب الآخر، جادل منظّرون ماركسيون آخرون، مثل فلاديمير لينين، بأن النقابات يمكن أن تكون أدوات فعالة للتغيير إذا تم ربطها بحركة سياسية منظمة، ودعا إلى إنشاء حزب طليعي يقود الطبقة العاملة ويوجه النقابات نحو تحقيق أهداف الثورة البروليتارية.
التحديات التي تواجه النقابات العمالية
في ظل العولمة الاقتصادية وظهور أشكال جديدة من العمل غير المستقر، أصبحت النقابات تواجه تحديات كبيرة. من أبرزها:
- تراجع معدلات التنظيم: مع زيادة العمل غير المنتظم والعمل الحر، أصبح من الصعب على النقابات تنظيم العمال بشكل فعال.
- التشريعات المعادية للنقابات: في العديد من البلدان، تم تشريع قوانين تحد من قدرة النقابات على الإضراب أو المفاوضات الجماعية، خاصة بعد توطد سلطة الليبرالية الجديدة على يد تاتشر وريغان.
- التغيرات في هيكل الاقتصاد: مع انتقال الصناعات الثقيلة إلى البلدان النامية وتركز الاقتصاد في القطاعات الخدمية والتكنولوجية، تغيرت طبيعة الصراع الطبقي.
الماركسية والواقع المعاصر للنقابات
اليوم، تعيش النقابات العمالية حالة من التراجع النسبي في العديد من الدول، خاصة في الدول الصناعية المتقدمة. ويعود ذلك جزئيا إلى تأثير السياسات النيوليبرالية التي قلصت من دور الدولة في حماية العمال، إضافة إلى تراجع الصناعات التقليدية التي كانت تشكل معاقل للنقابات.
وعلى الرغم من ذلك، هناك أمثلة على حركات عمالية نجحت في تحقيق إنجازات ملموسة. ففي أمريكا اللاتينية، على سبيل المثال، لعبت النقابات دورا محوريا في مقاومة السياسات النيوليبرالية وتعزيز حقوق العمال. وفي بعض الدول الأوروبية، استمرت النقابات في الدفاع عن دولة الرفاه الاجتماعي رغم الضغوط المتزايدة.
من جهة أخرى، عاد النقاش حول الماركسية إلى الواجهة في السنوات الأخيرة، خاصة بعد الأزمات الاقتصادية المتكررة التي أظهرت هشاشة النظام الرأسمالي. في هذا السياق، يمكن للماركسية أن تقدم رؤى جديدة للنقابات حول كيفية مواجهة التحديات وتحقيق العدالة الاجتماعية.
ورغم هذه التحديات، ما زالت النقابات تمثل أداة مهمة للدفاع عن حقوق العمال، لكنها تحتاج إلى التكيف مع الواقع الجديد. وتمثل العلاقة بين الماركسية والنقابات العمالية إحدى القضايا المحورية في فهم تطور الحركات الاجتماعية والصراعات الطبقية. ومن خلال تبني رؤية ماركسية معاصرة تأخذ في الحسبان التغيرات الاقتصادية والاجتماعية، يمكن للنقابات أن تستعيد دورها كقوة دافعة للتغيير الاجتماعي والثوري.