عاد اللسانُ الملحيّ إلى شطّ العرب، وعاد ماء الإسالة في الحنفيات سُمّاً زعافاً، وعادت التحذيرات من كارثة بيئية بسبب ملوحة الماء وتلوثه. وعاد الحديث هنا وهناك عن الماء المالح وماذا سيسبب، وعادت الاتهامات والتسقيطات والكل يتّهم الكلّ بالتقصير والفساد، ولا نعرف الحقيقة أين، وهي واضحة كالشمس!! لماذا لم تُحل هذه المشكلة، ولماذا مواعيد المسؤولين وتصريحاتهم العرقوبية عندما تتفاقم الأزمة فقط، ومالذي سيقولونه الآن؟!
منذ أن فتحنا أعيننا نعرف أن هذه الأرض تملك نهرين عظيمين، على ضفتيهما قامت أعرق الحضارات، منهما أخذت البلاد اسمها، كانا يفيضان بالخير والحياة منذ بدء التاريخ!
قرأنا عن فيضانهما الكثير، وسمعنا عنهما حكايات كثر. في سبعينات القرن الماضي فاض الشطّ بعد ارتفاع مناسيب مياههما، فغرقت قريتنا وصرنا نبحث عن ملاذ آمن، وفي أواخر الثمانينات وبعد خروجنا من السجن تم نقلنا كجنود إلى مناطق الفيضان غرب ميسان، حيث رأيت المياه تجرف بسيلها البيوت والحيوانات، كان أهلي في جنوب الفاو يبنون السدود والأكتاف إبان الستينات والسبعينات خوفا من الفيضان! تلك الكميات الهائلة من المياه العذبة لم نفكر بالمحافظة عليها، بل تركناها تجري صوب الخليج المالح وكأن شيئا لم يكن!!
كان أهلنا الفلاحون يغمرون أراضيهم بالماء ويسدّون مداخله لأيام، بل ويحتفظون بجزء منه أيضاً !
هذه الحكمة في خزنه لم نتعلّمها لأن كل حاكم ومسؤول جاء لبلادنا لم يفكّر بآلية الاستفادة من مياه النهرين العظيمين، بل انشغل وبطانته بالتآمر والحروب والظلم والفساد، كما إن الدول المجاورة لم تفكر منذ الأزل سوى باحتلال أرضنا ونهب خيراتنا والآن بقطع المياه عنّا !
بلاد الرافدين لم تستفد من رافديها، بل صارا نقمة على شعبها كالنفط، صرنا نتلمّس زخّة مطر لتنقذنا من خطر الجفاف والتصحّر،
يا للمهزلة الكبرى ، والمأساة الأكبر!!
لو فكّر حاكم واحد من كل مَنْ جاءوا وحكموا هذه الأرض وبنى سداً على شط العرب أو فتح انهاراً وقنوات إلى الصحراء المترامية الأطراف من بغداد حتى البصرة لما احتجنا إلى قطرة ماء واحدة ؟! لو لم يجفف الطاغية المقبور الاهوار التي كانت خزّانا طبيعياً كبيراً، لما احتجنا إلى قطرة ماء !
لو فكّر حكّامنا ومسؤولونا ومنذ ربع قرن بآلية جديدة ونصب معامل تحلية المياه، لما صار ماء البصرة مالحاً وملوّثاً ؟!
لو انشغل المسؤولون الآن بإيجاد حل حقيقي لهذه المشكلة ــ وهو بسيط جداًــ بدلاً عن المناكفات والمجاذبات والتسقيطات والاتهامات، وكل يحارب الكل من أجل المصالح الشخصية والحزبية والفئوية لما صار حالنا كما هو عليه الآن؟! وليعلم الجميع أنه في أربعينات وخمسينات وستينات القرن الماضي كان الخليجيون وأهل الكويت تحديداً ينقلون الماء في زوارقهم و( لنجاتهم ) من شط العرب الى مناطقهم، اليوم شط العرب صار مالحا وملوّثاً وبتنا نشتري الماء العذب من الكويت ودول الخليج بعد أن تقوم بسحبه من الخليج المالح وتحليته، وكأن هذه العملية ــ أقصد تحلية المياه ــ معضلة كبرى لا يستطيع أي مسؤول حلّها !!