يوم قرأت خبر عدم إدراج يوم 14 تموز ضمن العطلات الرسمية وإلغائه، ترقرقت الدموع بعيني وضربت كفاً بكف متسائلا مع نفسي: الى أين ذاهبون، وكيف سيكون حالنا كمواطنين بلا عيد وطني لبلادنا أسوة بكل بلدان العالم (الكبيرة والصغيرة، المتقدّمة والمتأخرة، الغنيّة والفقيرة)؟!
لحظتها عدتُ بذاكرتي الى أيام الطفولة والصبا والشباب في ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم حين تشرق علينا شمس يوم 14 تموز مع صفّارات البواخر وهي تعزف موسيقى الفرح بالعيد الوطني للعراق، وتنطلق الدفوف والمزاهر والزغاريد ليمتلئ الشطّ بالزوارق والبواخر مزهوة بأعلام الزينة ورافعة بأعلى صواريها العلم العراقي يرفرف عالياً مع (الصفكة) البصراوية المحبّبة للنفوس، ويتمّ فيه ختان مجانيٌّ للأطفال وتوزيع كسوة الفقراء وغيرها.. لحظات لا يمكن أن تمحى من ذاكرة الأجيال التي سبقتنا والتي لحقتنا كذلك لما لها من وقعٍ في النفوس وزهوٍ وطنيٍّ لا مثيل له!
في يوم 14 تموز من عام 1789 قامت الثورة الفرنسية بأحداثها الجسام، ليظلّ هذا اليوم منذ تلك اللحظة والى هذه الساعة عيداً وطنياً للفرنسيين يحتفلون به كل عام، لم تلغه أي حكومة جاءت ضمن هذه المدة والتي تربو على 334 سنة سواء اتفقت أم لم تتفق مع مبادئ الثورة وأهدافها كون تاريخها هو العيد الوطني للبلاد!
وفي 14 تموز عام 1958 قامت الثورة التي حرّرت العراق من ربقة الاستعمار والتحالفات الإمبريالية والرجعيّة مثل حلف بغداد وغيره، وتم إعلان الجمهورية وإلغاء الملكية وإخراج العراق من التبعية والهيمنة البريطانية وغيرها، وإنهاء الإقطاع ليتحرّر الفلاّحون الذين أكل الإقطاعيون أعمارهم وساموهم أشدَّ أنواع الاستغلال والعبودية والاذلال ويصدر قرار توزيع ملكية الأرض بالعدل والإنصاف (الأرض لمن يزرعها) لتنطلق ابهى حملات الإصلاح الزراعي وتلبس أرضنا حلّة خضراء قشيبة مزهوة بالفرح والإنتاج. كما تم السماح بتأسيس النقابات والاتحادات والجمعيات الفلّاحية وغيرها لينبثق منها اتحاد الأدباء والكتّاب ونقابة الصحفيين العراقيين عام 1959، إضافة الى نقابات العمّال وما إلى ذلك، ليبدأ عصر جديد من العمران والبناء والتقدّم على كل المستويات وفي كل الاتجاهات اجتماعياً وتعليمياً وصناعياً وزراعياً وغيرها رغم ما كانت تُحاك من مؤامرات لتفتيت وحدة العراق حيث توحّدت مكوناته تحت راية الجمهورية بعراق موحّد خالٍ من كل أنواع الطائفية والمحاصصة المقيتة ، التي عاد شبحها الآن يهيمن على مقدّرات الوطن للأسف الشديد!
هذا التاريخ لم يلغه الذين قاموا بانقلابهم الأسود عام 1963 وما فعلوه بقادة الثورة والرجال الذين نذروا أرواحهم في سبيل وطن حر وشعب سعيد، بل ظلّ عيداً وطنياً حتى بمجيئهم للهيمنة على الرقاب والعباد مرة أخرى عام 1968 وحكمهم الدكتاتوري الدموي الفاشي!
في التاريخ شواهد حقيقية لا يمكن محوها أبداً، وثورة 14 تموز 1958 ستظلّ عيداً وطنياً عراقياً لأنها حرّرت الأرض والناس من ربقة التحالفات والاستعمار والهيمنة الرجعية وفتحت آفاقاً جديدة في حياة العراقيين لن تمحوها أي محاولة مهما كانت، لأنها مغروسة في الضمير والوجدان والنفوس!