اخر الاخبار

من الصعب مواجهة الحقائق حين تتعلق بجرائم ضد الإنسانية او بفساد كبير وما شابه ذلك. لهذا لا تنقطع المحاولات لطمسها، خاصة بإبعاد الشهود بشتى الوسائل والسبل، وبضمنها التصفية الجسدية والتغييب القسري!

أتذكّر ذات ليلة من ليالي الشتاء الباردة، ونحن نتحلّق كالعصافير حول الموقد في بيتنا الطينيِّ، في أقصى جنوب القلب، حيث قريتنا الواقعة عند تخوم البحر، وقد اعتادت أمي أن تحكي لنا حكاية من (سواليف الجدّات)، فنصغي إليها بكل جوارحنا حتى يأخذ منّا النعاس مأخذاً، فنغفو متنعّمين بالدفء والأحلام الوردية.. 

كانت تحكي لنا عن رجل غريب دخل القرية ذات ليلة، واتّهمه اثنان من ابنائها بالسرقة والتحرّش بأعراض الناس، وعلى اثر ذلك قتلاه غدراً. وبعد مرور سنوات تبيّن أنه بريءٌ من كل ما ألصق به من تُهم، وأنهما قتلاه لأنه اكتشف بالصدفة انهما يقومان بأفعال دنيئة رغم ادعائهما الشرف والأمانة. حيث يقومان بالسرقة والقتل والاغتصاب وما إلى ذلك دون علم أهالي القرية بهويتهما، لهذا قتلاه وأشاعا أنهما ضبطاه بالجرم الذي لقي مصرعه على أثره ، ليشغلا الناس بحكايته زمناً ضاعت فيه الحقيقة وانطمست معالمها!

تذكّرت حكاية الرجل الغريب التي روتها لنا أمي في تلك الليلة، حين سمعت وشاهدتُ من على شاشة التلفاز سقوط الإعلامية الفلسطينية شيرين أبي عاقلة شهيدةً برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي، والتي جرى قتلها غيلة كونها تنقل الصورة الحقيقية البشعة لما ترتكبه هذه القوات من آثام وأعمال لا إنسانية بحقِّ المواطنين الفلسطينيين العزّل يندى لها الجبين. والغريب في الأمر أنه بعد اغتيالها شُغل الناس بأقاويل تافهة حول معتقدها وانتمائها الديني ، ليظلّ السذّج من الناس في خلاف على موتها وهل يجوز الترحّم عليها أم لا ، دون الالتفات إلى سقوطها شهيدة برصاص محتلٍّ غادر، وهي تؤدي واجبها الإنساني والمهني بنقل الحقيقة للناس عبر صوتها و كاميرتها التلفازية التي ظلّت تحملها أكثر من عشرين سنة، لينشغل الناس بعيداً عن تلك الحقيقة المرّة !

وما أكثر ما أخفي من حقائق في بلادنا وما طمس من أدلة على جرائم وموبقات، من خلال اغتيال الصحفيين والإعلاميين والناشطين أو تغييبهم قسرياً، وإشغال الناس بعد ذلك بأزمات متلاحقة وخلافات مصالح وغيرها، لإبعاد انتباههم عن أسباب انتشار الخراب وسوء الخدمات وتردّي التعليم واستفحال الفساد في كل مفصل من مفاصل البلد وحياته !

عرض مقالات: