إحتل حق تقرير المصير، موقعاً متميزاً، في البرامج الإنتخابية لليسار، وكان دوماً محور جدال حاد بين أطيافه. ويعتبر كارل ماركس أول من أشار لهذا الحق في مناسبات ثلاث، الاولى حين طالب بإستقلال بولندا عن روسيا القيصرية وإعادة تأسيسها على أساس ديمقراطي اجتماعي، العام 1865، والثانية حين دعم حق الإيرلنديين في التخلص من الإستعمار الإنكليزي في العام التالي، والثالثة حين أعتبر جميع حركات التحرر الوطني ثورية، ودعا الشيوعيين إلى دعمها في العام 1870. ويرى بعض الكتاب أن انتفاضات الجزائريين ضد فرنسا والهنود ضد إنكلترا قد ساهمت في تحويل ماركس من منظّر للنضال ضد الاستعمار إلى مشارك نشط في الصراع الأيديولوجي حول حق تقرير المصير.

وخاض الماركسيون بعده صراعاً مع نظرائهم من أقطاب الأممية الثانية حول هذا المبدأ، وبرز من بينهم لينين، لاسيما حين نشر كتابه (حق الأمم في تقرير مصيرها) العام 1914، وحين واجه ستالين، الذي رفض الإعتراف بإستقلال جورجيا، وأيضاً حين دحض فكرة روزا لوكسمبورغ المتمثلة بتحويل الإمبراطورية القيصرية إلى اتحاد دول مستقلة ذاتياً، مؤكداً على أن الحق في تقرير المصير سيشجع على قيام الثورات البرجوازية الديمقراطية التي تطيح بالإمبراطوريات الأوربية.

وعادت هذه المسألة لتواجه اليساريين اليوم، حين يضعون برامجهم الإنتخابية، لاسيما في البلدان متعددة القوميات أو التي لازالت تستعبد بشكل ما شعوباً أخرى. ففي الوقت الذي تشن فيه مراكز الدراسات الغربية حملة تشويه هائلة ضد تجربة الإتحاد السوفيتي في حل المسألة القومية، وتنسب حق تقرير المصير إلى الرئيس الأمريكي ولسن في وثيقته لعام 1919، وتسعى لمحو دور الإتحاد السوفيتي في تثبيت هذا الحق بميثاق الأمم المتحدة لعام 1945، يبقى أغلب اليساريين فخورين، بالحل اللينيني للمسألة، مؤكدين على أن البلاشفة قد تبنوا هذا الحق، قبل أن يسمع به ولسن، الذي لم يتضمن إعلانه سوى إشارات تتعلق بإعادة تنظيم أوربا ـ دون غيرها ـ بعد الحرب الأولى، مذكّرين بنشاط الدول الاشتراكية في الدفاع عن حق تقرير المصير ومناهضة الإستعمار، ومساهماتها الهائلة في عملية إنهائه مادياً وسياسياً، وإعتبارها ذلك شرطاً لإحترام حقوق الإنسان.

الا أن هناك من بين هؤلاء من لا يرى فضيلة فيما جرى، غير تحويل الأمر من مبدأ إلى حق قانوني، مستشهدين بوقوع الكثير من التناقضات خلال تطبيقه، لاسيما حين تم ربطه بقضية الصراع الطبقي وخدمة الاشتراكية. فيما يغض أخرون الطرف عن مجموعة الإخطاء التي إرتكبها ستالين ومن تبنى رايته، سواء في التقليل من دور حركات الشعوب المستعمرة، لأنها برجوازية صغيرة إنتهازية، أو في مهادنتها، دون الإلتفات لجوهرها القومي.

وهناك طيف أخر لا يرى في حق تقرير المصير سوى قيام الدولة الوطنية المستقلة، متمسكاً بنص ما قاله لينين ومتجاهلاً ما أفرزته العولمة المتوحشة من متغيرات، حيث تعمل رؤوس الأموال والشركات متعددة الجنسية، وبكل ما أوتيت من سبل كالضغط الاقتصادي والسياسي وحتى بالقوة الغاشمة، على التحكم بالحياة الاقتصادية والاجتماعية للدول الوطنية، خاصة الناشئة، إلى أن تتمّكن عملياً من القضاء على إستقلالها وسيادتها، وتحيلها لتابع ضعيف، معربين عن إعتقادهم بأن مواجهة ذلك تقتضي وحدة شغيلة اليد والفكر في القوميات المتعايشة بدل تجزئة نضالها. وهكذا يصبح البحث الجاد عن نموذج ماركسي جديد، لضمان حق تقرير المصير، فعلياً لا شكلياً، أمراً ضرورياً، لاسيما في ظل وجود أرث نظري كبير، يمكن الإستفادة منه لتحليل الواقع وإستنباط هذا النموذج.

عرض مقالات: