على مساحة كبيرة من معسكر الرشيد جنوب شرقي بغداد، تتوزع تلال من النفايات، تحوّلت إلى مصدر معيشة لمئات العائلات المعدمة، التي تمتهن جمع المواد البلاستيكية والمعدنية من المطامر الصحية، أو ما يطلق عليها مهنة “النباشة”.

وتسكن هذه العائلات في مساكن عشوائية متهالكة مطلة على المطمر الصحي، الذي أصبح مصدر عيشها الوحيد. وبينما تفتك بها الأمراض جراء ملامستها المواد الملوّثة وسكنها في بيئة غاصة بالجراثيم والبكتريا الضارة، يرفض القطّاعان العام والخاص تشغيل أفرادها، نظرا لتاريخهم المهني! وفي الوقت ذاته، ترفض المدارس استقبال أطفال النبّاشين!

وفي بغداد وحدها يوجد أكثر من 213 مطمرا صحيا، 149 منها غير حاصل على موافقات رسمية - حسب أحدث إحصائية للجهاز المركزي للإحصاء.

المدرسة طردتني!

تمتهن الفتاة زهراء عباس ذات الـ14 ربيعا، مهنة النبش برفقة والدها. إذ تخرج يوميا للعمل في مطمر معسكر الرشيد، مغطيّة وجهها بحجابها المليء بالتراب، ويديها بقفازين متهرئين، إلا ان ذلك لم يحمها من الإصابة بالجروح والأمراض!

تقول زهراء في حديث صحفي: “لا تؤذيني فكرة عملي في المكب وإصابتي كل يوم بمرض جديد، أو حتى العيش وسط النفايات. فهذا قدري، لكن أتمنى إكمال دراستي. إذ ليس مسموحاً لي، فهم يطردونني ويطلبون مني العودة للقمامة”!

وتقضي الفتاة ووالدها أكثر من 12 ساعة يوميا في جمع النفايات، ليحصلا في النهاية على مبلغ بسيط لا يتعدى 15 ألف دينار، من المتعهد الذي يشتري ما جمعاه!

فمنذ الرابعة فجراً يخرج الأب وابنته حاملين عشرات الأكياس الفارغة استعداداً لملئها. وفي المطمر يحددان المهام ونوع النفايات التي سيقومان بجردها وتعبئتها، ثم يبدآن رحلتهما المضنية.

وتوضح زهراء أن “الكيس الواحد يباع بـ 1500 دينار، والوقت الذي نستغرقه لملء هذا الكيس يتراوح بين ساعة واحدة وساعتين، وأحيانا يستغرق خمس ساعات فيما إذا كان هناك نباشون كثيرون يعملون في المكان نفسه”.

وتشير إلى أنه “نتشاجر أحيانا ونحن نجمع النفايات المعدنية، على علبة بيبسي فارغة، ونحن في الحقيقة لا نعرف طعم محتواها!”، لافتة إلى أن والدها ينتظر نضوج أخيها الأصغر، كي ينضم إلى مهنتهما.

وعن المدرسة، تقول زهراء “لم اتمكن من البقاء فيها بعد الصف الخامس الابتدائي، بسبب رفض المعلمين وأولياء أمور التلاميذ لوجودي أنا وغيري من أطفال معسكر الرشيد”، مبيّنة أنه “يقولون لنا أنتم أبناء النفايات وستجلبون إلينا الأمراض والبراغيث، بماذا ستفيدكم شهاداتكم وأنتم أخيراً تعودون للمطامر؟!”.

من جانبه، يؤكد النبّاش كريم حسن (64 عاما)، أن أحفاده الأربعة تعرضوا إلى تعنيف نفسي وسوء معاملة من قبل إدارة مدرستهم، ما أجبروا على ترك الدراسة.

ويضيف في حديث صحفي قائلا: “لم تمنحنا الأيام مستقبلاً جيدا. فكل شيء كان ظالما معنا. لكننا على الأقل نريد مستقبلا أفضل لأطفالنا. فما الذي يجب أن نفعله لنضمن عودتهم إلى المدارس؟!”.

وعلى امتداد معسكر الرشيد لا توجد أية مؤسسة تعليمية أو مركز صحي أو حتى خدمات للصرف الصحي أو الكهرباء. ويقوم بعض سكان المطمر بحفر الآبار للحصول على المياه، وسحب الكهرباء من المناطق السكنية القريبة إلى بيوتهم المبنية من صفائح التنك والبلاستيك أو من إطارات السيارات القديمة. ويؤكد حسن “نعيش بالقدرة والصدفة. هذا المكان معزول عن الحياة الإنسانية الطبيعية، وكل شيء فيه ضد الحياة ولا أحد يعلم عنا شيئاً. إذ لم يصل إلينا دعم، سوى كابسات البلدية التي ترمي أطنان النفايات قربنا، وكأنها تقول لنا خذوا.. هذا هو مصدر عيشكم”!

كلاب مسعورة تنهش أجساد الأطفال

وتواجه هذه العائلات خطر الكلاب السائبة المسعورة. إذ يلفت حسن إلى ان هناك المئات منها لا تتردد في عض الأطفال وتشويههم، مبينا أنه “أسبوعيا يحصل نحو 5 حالات عض وتشويه للأطفال من قبل الكلاب السائبة. وقبل فترة تمكنا بصعوبة من إنقاذ رأس طفل من فك كلب”!

ويضيف قوله: “أعلم أن هذا المكان يجذب الحيوانات السائبة، لكن أين نذهب؟ فكثير من الأشخاص يصابون بداء الكلب ثم يموتون، أو يصابون بالجرب. لذلك ينبذنا الجميع، ولا أحد يحاول مساعدتنا أو على الاقل الاستماع لشكوانا.. أعيش في المعسكر بعد أن خرجت من مدينة غير آمنة، واليوم يواجهني الواقع بجانبه الأسود”!

الابتزاز يلاحق عائلات المطمر

تخرج كاملة جعفر (55 سنة) لوحدها يوميا لنبش النفايات. لكنها تفضل المحترقة منها، كون ذلك يسهل عليها عملية الفرز.

فيما تعاني الحساسية المزمنة وتحدب الظهر بسبب عملها المضني الذي زاولته منذ أكثر من 30 سنة في مطمر النهروان، قبل أن تستقر في مطمر معسكر الرشيد.

تقول كاملة في حديث صحفي، أنه “أفضل أن أعمل منظفة في حمامات المدارس أو الحمامات العمومية على هذه المهنة، لكن لا أحد يقبلني. فكلما سألوني أين عملت سابقاً وأجيبهم يغلقون الأبواب في وجهي، ويقولون نحتاج إلى ناس نظيفين يعيشون في أماكن نظيفة”، مشيرة إلى انه “أصرف كل ما أجنيه على صحتي، رغم قلته”.

وتلفت هذه المرأة إلى انها تعمل لوحدها، فيما يعمل ابنها مع زوجته بعيداً عنها، مضيفة “لا أعرف طريق المعامل التي تشتري ما نجمعه. لذلك أتفق مع شخص لديه مكبس نفايات، فيجلب لي عماله شهريا كي يستلموا ما جهزته، لكنه في النهاية يقتسم معي الأجر بالنصف.

أي انني لو تمكنت من جمع 300 كيس في الشهر يكون المقابل 450 ألف دينار، لكنني أمنح فقط نصف هذا المبلغ”!

وتؤكد كاملة انها تحدثت أكثر من مرة مع صاحب المعمل لزيادة سعر الكيس، لكنه يرفض ويحذرها من الاستغناء عن خدماتها “لذا أحاول كثيراً زيادة أعداد الأكياس بالعمل لأكثر من 18 ساعة يومياً، وأحياناً لا أستطيع العمل لشهور، فيما إذا كنت راقدة في المستشفى بسبب المرض”!

وتلفت إلى انه “ليس لدي راتب تقاعدي أو راتب رعاية اجتماعية. وما أجنيه لا يحقق لي عيشا كريما. فحتى المياه الصالحة للشرب اشتريها، أما اللحوم فلا أعرف طعمها.. أنا أبحث في المطمر يوميا لأتمكن في نهاية اليوم من تناول البطاطا المتعفنة نفسها”!

بؤرة أمراض وعقارب

ليس الجانب الاجتماعي وحده من يفرض حصاراً على الساكنين في مطمر المعسكر، فصحياً تساهم الأمراض والأوبئة والعقارب والأفاعي في دخول أكثر من 20 شخصاً يومياً إلى المستشفى - وفق ما تؤكده طبيبة النسائية في مستشفى الزعفرانية شهد فائق، وهو المستشفى الأقرب إلى المكب.

وتقول الطبيبة في حديث صحفي أن “النساء يصبن بالتهاب المجاري البولية الحادة، وأحياناً يتطور الأمر ويصل إلى تسمم الدم، والذي قد يؤدي إلى الوفاة أو الإجهاض”.

وتسبب النفايات الحادة الملوّثة جروحا للنباشين، ما ينقل الجراثيم والفيروسات والبكتيريا الضارة مباشرة إلى الدم، الأمر الذي ينتهي إلى الإصابة بأمراض خطيرة، منها الجرب والحصبة والسل والاكزمة والتهاب الجلد والسلمونيا، وصولا إلى التهاب الكبد الفيروسي. 

وتؤكد الطبيبة شهد أن “الكثير من النساء العاملات في المكب يأتين بعد تفاقم المرض، ويكون من الصعب السيطرة عليه. وبعضهن يصبن بأمراض دائمة تمنعهن وهن في أعمار متوسطة من مواصلة العمل”.

أما طبيبة الأطفال زهراء قاسم، فتبيّن أن “الكثير من أطفال المطمر لم يتلقوا اللقاح الثلاثي، ما يؤدي إلى وقوعهم فريسة للقمل والجرب وداء الكلب”، مؤكدة في حديث صحفي ان “بعض الحالات تتطلب تدخلاً جراحياً، لكن الناس لا يملكون الأموال اللازمة، ما يجعلهم يعودون للمعسكر وهم محملون بالخيبة، أو ينتظرون الدور في المشافي الحكومية، وحينها سيكون الوضع ازداد سوءاً وقد يفارق بعضهم الحياة”!

وتلفت إلى انه “يصل إلى المستشفى كثير من محاولات الانتحار بين الشباب والنساء”، منوّهة إلى أن “الوضع البيئي والاجتماعي السيئ للمكان، يدفع هؤلاء إلى رفض الحياة. كما أن هناك نساء كثيرات حاولن الاجهاض بطرق غير آمنة، لأنهن لا يردن لأولادهن تجربة مرارة العيش”.