تحل اليوم الذكرى الخامسة لانتفاضة تشرين، التي بدأت شرارتها الأولى من ساحة التحرير، وسط بغداد، في الأول من تشرين الأول لعام 2019، قبل ان تمتد الى المحافظات، وهي تطالب بالتغيير ومحاربة الفساد. إذ لا تزال البلاد تعاني من أزمات متفاقمة على جميع المستويات، تواصل القوى المتنفذة تجاهل المطالب الشعبية التي ملأت الساحات، ما يزيد من تعقيد الأزمات وتعميقها.
تعد الانتفاضة واحداً من أبرز الأحداث في تاريخ العراق المعاصر، حين خرج مئات الآلاف من العراقيين الى الشوارع، في وجه الظلم والفساد والفقر والبطالة، مطالبين بحقوقهم ومرددين شعار "نريد وطن". فقد جسّدت هذه الحركة الشعبية صوتا جريحا ينادي بالعدالة الاجتماعية، ويعبّر عن استياء عميق من جراء تنامي الثروات في يد قلة من رجال السلطة وأعوانهم.
رغم الغضب الجماهيري والمطالب الصريحة بإجراء تغييرات جذرية في المنظومة السياسية، إلا أن القوى الحاكمة والمتنفذة لم تتعظ من الدروس التي حملتها تلك الاحتجاجات.
وعي جماهيري متزايد
الدكتور عصام فيلي، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة المستنصرية، يرى أن "انتفاضة تشرين هي الحركة الاحتجاجية الجماهيرية العفوية الأولى في العراق".
وأضاف فيلي في حديثه لـ"طريق الشعب"، أن "المنتفضين، الذين شعروا بالظلم واليأس، تحركوا بدافع الرغبة العارمة في التغيير. هذه الانتفاضة صححت جزءًا من مسار العملية السياسية، وجعلت القوى السياسية تدرك أن الرهان على الترويج السياسي والطائفي لم يعد ينفع، بل برزت بوادر وعي جماهيري متزايد".
وأشار فيلي إلى أن "الطبقة السياسية الحاكمة باتت تدرك خطر الانتفاضة على نفوذها ومحاولات تغيير الواقع من الداخل. المنتفضون خرجوا إلى الشوارع بحثا عن العدالة الاجتماعية وسط هيمنة طبقة الاوليغارشية على ثروات البلد، واتساع رقعة الفقر".
واختتم قائلاً: إن "غياب المعالجات الحقيقية واستمرار القوى السياسية بنفس النهج المأزوم لن يؤدي إلا إلى زيادة سخط الشارع وتفاقم الأزمات".
لحظة تشرين
زين العابدين البصري، ناشط سياسي، وصف الانتفاضة بأنه "نقطة فارقة في تاريخ العراق الحديث، وخصوصاً للشباب بعد العام 2003".
وقال البصري في حديثه لـ"طريق الشعب"، أن "الانتفاضة عززت الهوية الوطنية بين الشباب العراقي الذي أنهكته الصراعات السياسية"، مبينا ان "هذه اللحظة جمعت العراقيين بعيدًا عن الانتماءات الطائفية والعرقية".
وأضاف البصري ان "الانتفاضة لم تكن مجرد احتجاجات، بل كانت تعبيرًا صريحًا عن رفض جيل كامل للمنظومة السياسية، التي ردت على مطالبهم بالقمع الدموي".
وتابع، ان "الانتفاضة أسهمت في خلق جيل واعٍ ومدرك لأهمية التغيير"، موضحا أن "القوى المتنفذة أدركت حجم الخطر الذي شكلته الانتفاضة على مصالحها الحزبية الضيّقة، ما دفعها للتعامل بوحشية مع الشباب العزل".
الاحتجاجات مستمرة
ورغم مرور خمس سنوات على انتفاضة تشرين، أكد البصري أن "الحركة الاحتجاجية في العراق لم تنتهِ"، مستشهدا على قوله بـ"استمرار الاحتجاجات المطلبية في مختلف القطاعات، نتيجة لتفاقم الأزمات والفساد".
وأشار إلى أن "مراكمة الأزمات ستؤدي بالضرورة إلى تفجر الأوضاع بشكل أكبر، خاصة مع تزايد وعي الشباب وإصرارهم على التغيير".
مطالبات بمحاسبة القتلة
فيما قال علي البهادلي، الذي شارك في الانتفاضة منذ لحظتها الأولى، إنها "هزت أركان أحزاب السلطة، ما دفعهم إلى اتخاذ تدابير وحشية لقمعها، تنوعت بين استخدام العنف والقتل والخطف والتهديد، بالإضافة إلى محاولات الترغيب بالمناصب والأموال والنفوذ".
وأضاف البهادلي في حديث لـ"طريق الشعب"، أن "القوى المتنفذة حاولت على مدار السنوات الماضية تسخير الأموال المسروقة ووسائل الإعلام الصفراء للنيل من الانتفاضة، في محاولة لتشويه صورتها خوفاً من امتداداتها الشعبية"، متسائلا عن "الأسباب وراء عدم محاسبة قتلة المحتجين والافراج عن بعض المتهمين بالقتل برغم وجود احكام قضائية بحقهم".
وأشار إلى أن "الانتفاضة رافقتها بعض الأخطاء في التنظيم: عدم وجود قيادة، غياب الاستناد إلى أيديولوجية ثورية"، منوهاً بأن "هذه النقاط كانت في البداية عنصر قوة، لكن كان يجب تدارك الأمر لاحقاً من أجل الارتكاز إلى منهجية واضحة في اتخاذ المواقف".
ووجه البهادلي "انتقادات للمشبوهين والمتسلقين الذين فضّلوا مصالحهم الشخصية على المصلحة العامة".
ستحصد ثمارها
ويعتقد الناشط أن "بعض المستقلين الذين فازوا في انتخابات مجلس النواب بأصوات مناصري الانتفاضة لم يكونوا معبّرين حقيقيين عن مصالح ناخبيهم، باستثناء قلة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة"، موضحاً أن "الانتفاضة، كحدث تأريخي، أصبحت الآن من الماضي، لكن تأثيرها السياسي والاجتماعي في تزايد، وستحصد ثمار تضحياتها رغم مرور الوقت، خاصة إذا تم التفكير بطريقة منهجية سليمة في التحرك صوب الجماهير".
وختم بقوله: "كان الأول من تشرين الأول 2019 عبارة عن صرخة مدوية في وجه منظومة المحاصصة والفساد، وصوتا مناديا بإنقاذ البلد من عبث سراق المال العام، وكسر احتكار السلطة من قبل أقلية مرفهة تهيمن على مقدرات العراق، محصنة نفسها بالسلاح المنفلت والمال الفاسد، واستغلال مؤسسات الدولة".
في ظل هذه الظروف، تظل المطالب الشعبية قائمة، فيما يبقى السؤال الأكبر: هل ستتعظ القوى السياسية وتستجيب لمطالب التغيير، أم أن الأزمات ستستمر في التفاقم حتى تصل إلى نقطة الانفجار، مرة أخرى؟