يتصاعد القلق في البلاد مع تحول أزمة المياه إلى كارثة محدقة، ما يهدد مستقبل الزراعة والأمن الغذائي والاستقرار الاجتماعي.
وفي هذا اللقاء يسلط مستشار وزارة الزراعة د. مهدي ضمد القيسي الضوء على التحديات والإجراءات الاستراتيجية التي تتخذها الوزارة لضمان استمرارية الإنتاج الزراعي.
حيث أكد القيسي أن "أزمة المياه في العراق آخذة في التصاعد، حيث تحولت من حالة شح إلى مرحلة ندرة حقيقية"، مشيرا إلى أن إيرادات العراق المائية من دول الجوار تراجعت بشكل واضح، ولا سيما من تركيا التي ينبع منها نهرا دجلة والفرات، إضافة إلى الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فضلا عن المياه المشتركة مع الجانب السوري. وأوضح أن وزارة الموارد المائية أعلنت أن الخزين المائي انخفض إلى أقل من 10 مليارات متر مكعب، ما يشكل خطرا كبيرا على الأمن المائي.
الأولوية لمياه الشرب
وأضاف أن هذه الأزمة تزامنت مع موسم جفاف شديد، غابت فيه الأمطار والسيول، الأمر الذي أدى إلى تراجع الخزين المائي. وبيّن أن وزارة الموارد المائية عرضت أمام اللجنة الوطنية العليا للمياه – برئاسة رئيس الوزراء وعضوية وزيري الموارد المائية والزراعة وعدد من الشخصيات المعنية – تحديا يتمثل في صيف 2025، حيث كان الخيار بين تأمين مياه الشرب أو الزراعة، فتم إعطاء الأولوية لمياه الشرب باعتبار الإنسان أهم من الزراعة.
ونتيجة لذلك، منعت زراعة الشلب لاحتياجه كميات كبيرة من المياه، باستثناء 200 دونم من أجل ديمومة عمل دائرة البحوث الزراعية في المشخاب والنجف الأشرف والديوانية في حماية وتطوير الرتب العليا، ما جعل الخطة الصيفية خالية من محصول الشلب.
وحول الموسم الشتوي، أشار القيسي إلى أن التصريحات الأخيرة لوزير الموارد المائية السيد عون دياب تؤكد وجود تقليص متوقع في الخطة، التي تعتمد أساسا على محصولي الحنطة والشعير. وقال إن "العراق بحاجة ماسة إلى الحنطة لدخولها في السلة الغذائية، ورغم تحقيق الاكتفاء الذاتي خلال الأعوام الثلاثة الماضية، إلا أن ندرة المياه الحالية قد تفرض تقييد زراعتها على المياه السطحية فقط".
الري بالرش من حلول معالجة شح المياه
وبيّن أن وزارة الزراعة ركزت خلال العامين الأخيرين على استيراد منظومات الري بالرش، خاصة لمحصول الحنطة، كجزء من خططها لمواجهة شح المياه، حيث تم التعاقد على أكثر من 13 ألف منظومة، وصل منها نحو 6 آلاف، ووزعت على الفلاحين بأسعار مدعومة، مع إعفاء من القسط في السنة الأولى وتقسيط 70بالمائة من المبلغ المتبقي على عشر سنوات. وأوضح أن هذه المنظومات توفر 30-40 في المائة من المياه مقارنة بالري السيحي، مما يتيح التوسع في المساحات المزروعة.
كما لفت إلى أن هناك شرطا في الخطط الزراعية المقرّة بين وزارتي الزراعة والموارد المائية، بضرورة وجود منظومة ري عند استخدام المياه الجوفية، للحفاظ على هذا المخزون الاستراتيجي الذي لا يقل أهمية عن الخزين السطحي في السدود والخزانات، الأمر الذي يتطلب التعامل معه بحذر شديد.
تشكيل فريق مفاوضات فني ثابت
وأكد القيسي أن الوزارة وضعت خطة شتوية لزراعة الحنطة بالاعتماد على منظومات الري والمياه الجوفية. وشدد على ضرورة وجود فريق مفاوضات فني قوي، ثابت لا يتغير بتغير الحكومات، يضم الحكومة والبرلمان ومنظمات المجتمع المدني والقضاء، ويرتبط مباشرة برئيس الوزراء، على غرار ما هو معمول به في دول أخرى.
وأوضح أن المفاوضات الحالية مع الجانب التركي تفتقر للضغط الكافي، إذ تقتصر على وزارة الموارد المائية بوصفها جهة تنفيذية وليست صاحبة قرار، ما يحد من قدرتها على مواجهة تركيا أو إيران أو سوريا. ودعا إلى استثمار أوراق الضغط مثل الميزان التجاري والمشاريع المشتركة، وفي مقدمتها "طريق التنمية" مع تركيا، عبر وفد فني متخصص وثابت.
وانتقد القيسي حصر الزراعة في العراق بمحصولي الحنطة والشعير، مؤكدا أن الزراعة تشمل أيضا الإنتاج الحيواني، والثروة السمكية، والبستنة، وزراعة الخضر التي تعتمد على الري بالتنقيط وتستهلك كميات أقل من المياه، ويمكن إنتاجها على مدار العام في البيوت البلاستيكية والمغطاة والزراعة المكشوفة.
الثروة السمكية بين التحديات والحلول
وفي ما يتعلق بالثروة السمكية، قال إن "ردم بحيرات الأسماك جاء بسبب استهلاكها العالي للمياه"، مشيرا إلى أن الوزارة أسست عام 2005 هيئة تنمية الثروة السمكية، ونجحت في إدخال تربية الأسماك بالأقفاص العائمة، لكن انخفاض المياه عام 2018 أدى إلى كارثة نفوق جماعي للأسماك في الحلة. وأضاف أن استمرار تربية الأسماك بالأقفاص أو في البحيرات الترابية يواجه ايضا مخاطر قلة المياه وتزايد الملوثات، وأن البديل هو النظام المغلق، الذي يحتاج إلى تمويل وطاقة كهربائية مستقرة، ما يستدعي التوجه نحو الطاقة الشمسية أو المولدات الخاصة، مع دعم حكومي في توفير الوقود. وأشار إلى أن مبادرة البنك المركزي ساهمت سابقا في تمويل مشاريع كهذه برسوم منخفضة أو بإعفاء كامل.
وأكد أن هذا التوجه وفر منتجا سمكيا محليا أكثر أمانا من المستورد، داعيا إلى مبادرات دعم جديدة، خاصة وأن وزارة الزراعة من أقل الوزارات تمويلا، ولم تنفذ خططا استثمارية منذ عام 2013، فيما أُحبطت مشاريع 2014 بسبب دخول داعش وعدم إقرار الموازنة، بينما ذهبت الأولوية في الموازنات للقطاعات الأمنية والعسكرية. وشدد القيسي على أن أي أرض زراعية لا تحصل على حصتها المائية تعتبر متصحرة وفق المفهوم الدولي، الأمر الذي يحتم التوجه نحو الزراعة الذكية والاعتماد على الذكاء الاصطناعي، وضرب مثالا بمحافظة البصرة التي شهدت إتلاف كميات كبيرة من الطماطم لغياب دور القطاع الخاص في التسويق، والحاجة إلى أسطول نقل مبرد وطائرات مسيرة لدعم الإنتاج والنقل والمكافحة.
تحويل جنس الأراضي الزراعية
وفي ملف الأراضي الزراعية التي تحولت إلى مناطق سكنية، أكد القيسي أن "الأولوية للمواطن، خاصة في الأراضي التي لا تصلح للزراعة ولا تتوفر لها مياه"، معتبرا أن تمليك هذه الأراضي للمستحقين قرار حكومي صائب، مع رفض أي تجاوز على الأراضي الزراعية الصالحة كتجريف بساتين النخيل، وهي ممارسات يعاقب عليها القانون.
واختتم القيسي بالتنويه إلى أن "قانون مجالس المحافظات سحب من وزارة الزراعة ذراعها الميداني (مديريات الزراعة)، ما جعل سلطة ضبط التجاوزات بيد مجلس المحافظة، الذي عليه إبلاغ اللجنة الزراعية لاتخاذ الإجراءات".
ولفت إلى أن "مواجهة هجرة الفلاحين والجفاف تتطلب قطاعا خاصا قويا يتبنى مشاكل الفلاحين عبر جمعيات وشركات متخصصة توفر المكننة الزراعية مقابل أجور بسيطة، في ظل محدودية قدرات الوزارة وتوسع مهامها ".