تستعد أمانة بغداد، مطلع تشرين الأول المقبل، لإطلاق حملة وطنية كبرى تستهدف زراعة ربع مليون شجرة معمّرة في العاصمة، في خطوة تهدف إلى مواجهة آثار التغير المناخي وتخفيف العواصف الترابية والحرارة المتزايدة.
وتأتي هذه المبادرة في وقتٍ يعاني فيه العراق من تراجع خطير في غطائه النباتي، إذ تشير التقديرات إلى أن 40% من أراضيه متصحرة أو مهددة بالتصحر، فيما تحولت بساتين بغداد التاريخية إلى مجمعات سكنية ومشاريع استثمارية، ما ساهم في تدهور البيئة الحضرية وتفاقم أزمة الغبار والجفاف.
وبينما تعوّل الأمانة على مشاركة المواطنين ومنظمات المجتمع المدني في إنجاح الحملة، يحذر خبراء بيئيون من فشل المبادرة إذا لم تُعالج أزمة المياه وتُعتمد أنواع نباتية مناسبة للظروف المحلية، مع التأكيد أن التشجير مشروع وطني طويل الأمد لا يمكن اختزاله بحملة موسمية.
وعلى مدى قرون، كانت بغداد محاطة من جميع جهاتها ببساتين وحقول زراعية واسعة وفّرت للمدينة مناخاً ملائماً ومصدات طبيعية للرياح والعواصف الترابية القادمة من الصحارى في الأنبار ومثنى غرب وجنوب البلاد. غير أن التعدّي الجائر على هذه البساتين والمزارع، وتحويلها إلى مجمّعات سكنية واستثمارات بواسطة جهات نافذة تنتمي إلى أحزاب متنفذة، إلى جانب الجفاف والتغير المناخي، أديا إلى تراجع هائل في المساحات الزراعية.
حملة تشجير كبرى
وتعتزم أمانة بغداد إطلاق حملة وطنية كبرى، مطلع تشرين الأول المقبل، تستهدف زراعة 250 الف شجرة معمّرة في مختلف مناطق العاصمة. في إطار خطة تهدف الى تخفيف آثار التغيّر المناخي، وزيادة الرقعة الخضراء وتحسين البيئة الحضرية.
وشرح المتحدث باسم الأمانة عدي الجنديل، حملة دائرته الخاصة بالتشجير، مؤكدا أنها "ستكون الأكبر من نوعها، وستشترك فيها جميع الدوائر البلدية الى جانب الدوائر الفنية المختصة وادارة المتنزهات".
وقال الجنديل في حديث مع "طريق الشعب"، أن الأشجار المختارة للزراعة، ومنها أشجار الأكاسيا، جرى انتقاؤها لقدرتها على التكيّف مع أجواء بغداد الحارة، فضلاً عن دورها في إضفاء جمالية على المشهد العمراني للمدينة.
وأضاف الجنديل، أن التركيز سيكون بشكل اكبر على زراعة أشجار كبيرة العمر والطول، لضمان استمراريتها وقدرتها على مقاومة الظروف المناخية، إلى جانب شجيرات وأصناف نباتية أخرى.
وتابع أن الحملة تشمل "إعادة تأهيل المتنزهات العامة داخل العاصمة وتطويرها، وتشجير الجزرات الوسطية والشوارع الرئيسة، الى جانب استثمار المساحات الفارغة وتحويلها إلى بيئات خضراء، فضلا عن توفير منظومات سقي حديثة في مواقع التشجير لضمان استدامة نمو الأشجار.
وأكد الجنديل، أن "الحملة ستحمل طابعاً وطنياً، إذ ستعمل الأمانة على اشراك المواطنين، ومنظمات المجتمع المدني، وطلبة المدارس والجامعات في أعمال الزراعة، بهدف تعزيز ثقافة التشجير والمشاركة المجتمعية. كما جرى التنسيق مع وزارة البيئة وعدد من المؤسسات المعنية، لتكون شريكة في إنجاح المشروع".
5 آلاف شجرة معمرة.. مجانا
وفي بادرة إضافية، كشف المتحدث باسم الأمانة عن خطة لتوزيع خمسة آلاف شجرة معمّرة مجاناً على المواطنين خلال الموسم الخريفي المقبل، لتشجيعهم على زراعة الأشجار في الحدائق والمناطق السكنية.
واختتم الجنديل بالقول إن أمانة بغداد تعوّل على هذه الحملة لتكون خطوة نوعية في تعزيز الغطاء النباتي داخل العاصمة، والحد من تأثيرات التغير المناخي، فضلاً عن إضفاء لمسات جمالية وحيوية على المشهد الحضري لبغداد.
يذكر أن مبادرات إنشاء الحزام الأخضر، بدأت في سبعينيات القرن الماضي، كجزء من حملة قامت بها الدول العربية وبمساعدة منظمة الأغذية والزراعة (فاو) في مرحلتها الأولى، يعمل كمصد للرمال الصحراوية التي تجتاح المدن والأراضي الزراعية، فضلا عن عمله للحد من الرياح الصحراوية نحو المدن، لكن المشروع توقف بسبب الحرب العراقية الإيرانية 1980- 1988، ومن ثم حرب الخليج، والخلاف العراقي الخليجي.
وتواجه البلاد واحدة من أخطر الازمات البيئية، إذ تشير التقديرات الى أن نحو 40% من اراضي العراق تعاني من درجات متفاوتة من التصحر، فيما تؤثر العواصف الترابية المتزايدة سلباً على الصحة العامة.
وأدى تراجع مناسيب الأنهار وشحّ المياه الجوفية إلى تآكل الغطاء النباتي وانحسار المساحات الخضراء داخل المدن والأرياف على حد سواء، الأمر الذي فاقم من ظاهرة الجفاف وارتفاع درجات الحرارة.
وبحسب مختصين، فإن العراق يحتاج الى مليارات الأشجار على المدى البعيد لتعويض خسائره البيئية والحد من تداعيات التغير المناخي، في حين تُقدّر الحاجة الفعلية داخل العاصمة بغداد وحدها الى مئات الآلاف وربما ملايين من الأشجار لإعادة التوازن البيئي وتخفيف حدة التلوث والحرارة.
شروط مهمة لانجاح الحملة
من جهته، حذّر عضو المرصد العراقي الأخضر عمر عبد اللطيف من أن حملات التشجير التي تُطلق في العراق، ومنها الحملة المرتقبة في بغداد، قد تكون مهددة بالفشل، ما لم تُعالج أزمة المياه، وتُحدد أنواع أشجار مناسبة للظروف المناخية المحلية.
وقال عبد اللطيف في حديث لـ"طريق الشعب"، إن أي حملة تشجير بعد هذا العام “ستكون فاشلة، ما لم تُعالج قضية المياه”، مبيناً أن “التشجير يحتاج الى توفير مياه كافية، فيما يعاني العراق من أزمة خانقة في هذا المجال”.
وأضاف أن "الأشجار التي تُزرع تحتاج من سبع الى عشر سنوات لتكبر وتصبح قادرة على امتصاص كميات من الكربون وطرح الأوكسجين، وهو ما يتطلب عناية ومتابعة دقيقة، وفي الاساس اعتماد زراعة اشجار كبيرة في العمر".
وأشار إلى أن "تجارب سابقة أظهرت فشل العديد من حملات التشجير، حيث تعرضت الأشجار المزروعة إلى التيبس والتكسر والموت، بسبب غياب الاهتمام وعدم توفير المياه الكافية، حتى مع استخدام نظام التنقيط الذي يوفر كميات محدودة لا تكفي لحاجتها".
وانتقد عبد اللطيف اختيار بعض أنواع الأشجار الغازية مثل الكاربس، ضمن حملة التشجير، مؤكدا إنها “تتسبب بأضرار للبنى التحتية”.
ولفت الى أن أمانة بغداد نفسها سبق أن قامت بزراعتها، ثم واجهت تبعاتها السلبية، داعيا إلى "تغيير سياسة اختيار الأشجار والتركيز على الأنواع المقاومة للأجواء العراقية".
واشار الى ان "بعض الأصناف تتميز بجمالها ورائحتها الطيبة وقدرتها على العيش لفترات طويلة تصل إلى خمسين عاماً وأكثر"، مضيفا ان هذه الأنواع من الاشجار كانت منتشرة في بغداد، لكنها تعرضت للقطع لأسباب متعددة، من بينها مشاريع الاعمار وادعاءات اصابتها بحشرات كالأرضة، وهو ما أدى الى تراجع الغطاء النباتي في العاصمة.
ونبه الى تجارب دول قريبة مثل السعودية، التي “لديها ظروف مناخية مشابهة للعراق، وربما اقسى، لكنها نجحت في إدخال أصناف أشجار قادرة على التكيّف”.
وانتقد في المقابل استيراد “أشجار رخيصة وغير ملائمة للبيئة العراقية”.
ولفت عبد اللطيف إلى أن بعض المشاريع الاقتصادية، مثل "سگف الأسماك"، ساهمت أيضاً في تدمير الغطاء النباتي، حيث يجري قلع الأشجار الكبيرة والمعمرة لاستخدامها في هذه المشاريع، بسبب رخص ثمنها وسهولة الحصول عليها، داعياً وزارة البيئة وشرطة البيئة إلى متابعة هذه الممارسات وتقنينها.
واختتم بالقول إن العراق بحاجة إلى مشروع وطني واسع النطاق للتشجير قد يتطلب “زراعة ما يقارب 15 مليار شجرة”، موضحاً أن الرقم قد يبدو مبالغاً فيه، لكنه في الواقع يتناسب مع حجم التصحر الكبير في البلاد، مشدداً على أن “كل شجرة تُزرع وتُصان، ستكون قادرة على إحداث فرق في تلطيف الأجواء وتحسين البيئة”.
3 عوامل أساسية
رهن الخبير البيئي علي السامرائي، نجاح حملات التشجير في العراق بثلاثة معايير أساسية: اختيار النوع النباتي المناسب للبيئة المحلية، تهيئة البنية التحتية المائية الكافية، وضمان الصيانة المستمرة للأشجار بعد زراعتها”.
وقال السامرائي لـ"طريق الشعب"، ان “الأشجار المعمّرة قادرة على امتصاص كميات كبيرة من الكربون واطلاق الأوكسجين، ما يسهم في تحسين نوعية الهواء وتلطيف درجات الحرارة، لكن هذا الدور يتوقف تماماً إذا لم تُوفر لها منظومات سقي فعّالة ودورية”، مشيراً الى أن المشكلة الأساسية في العراق تكمن غياب الإدارة المستدامة للمبادرات".
واضاف أن العراق يحتاج الى "سياسة وطنية واضحة للتشجير مرتبطة بخطط مكافحة التصحر وادارة المياه”، مؤكداً أن “زراعة أنواع مثل الاكاسيا أو الإيكالبتوس والكارتوس يمكن أن تحقق نتائج جيدة إذا ما دُعمت بخطط صيانة وري منتظمة”.
وخلص الى القول ان “التشجير لا يعد نشاطاً موسمياً، ويمكن القول انه مشروع استراتيجي طويل الأمد يحتاج الى متابعة لسنوات، وفق خطة مدروسة بعناية وبطريقة علمية، واشراك مختلف المؤسسات والمنظمات، اي نحن نتحدث عن مشروع وطني مستدام لا مجرد حملة آنية”.