ما أن يخرج الموظف الحكومي أمير أحمد من الدائرة بعد انتهاء دوامه الرسمي، حتى يستبدل ثيابه داخل سيارته، بأخرى مخصصة لعمل آخر. حيث يتجول بسيارته في شوارع بغداد، فاتحا تطبيقات سيارات الأجرة (التاكسي) بحثا عن الزبائن، ليبدأ رحلة جديدة من العمل بعيدا عن المراجعين والمعاملات الورقية.
وفيما يشتكي أصحاب المهنة الأصليون من مزاحمة موظفين حكوميين بالعمل سائقي تاكسي بعد الدوام، يُبرر أحمد وأمثاله عملهم هذا بحاجتهم الماسّة للمزيد من المال، في ظل صعوبة الظروف الاقتصادية وازدياد متطلبات المعيشة وارتفاع الأسعار وزيادة ضرائب الخدمات العامة.
يقول أحمد في حديث صحفي: "لم يعد الراتب الحكومي مجزياً. نحن ندور في حلقة مفرغة، ما نأخذه من الحكومة نعيده إليها سريعاً بتسديد فواتير الماء والكهرباء ونفقات المدارس وغير ذلك".
ويضيف قوله أنه "على الرغم من العمل الآخر الذي أزاوله بعد انتهاء الدوام، كسائق تاكسي، اضطر إلى الاستدانة أيضاً في حال تأخر صرف الراتب يومين أو ثلاثة، بسبب التزاماتنا الأسرية التي لا تتحمل تأجيلا".
وتدفع الظروف المعيشية الصعبة بعض الموظفين الحكوميين، إلى مزاولة أعمال إضافية للتمكن من تأمين نفقات أسرهم، والتي تزداد باستمرار. ولا يقتصر الأمر على الرجال وحسب، بل حتى النساء الموظفات يزاولن أعمالاً أخرى بعد انتهاء الدوام حتى وإن من داخل المنزل.
الراتب لا يكفي يومين!
الموظفة عفاف صلاح، وجدت لنفسها عملاً بعد انتهاء دوامها الرسمي، متمثلا في إعداد وتسويق بعض المأكولات، مثل الكبة والبورك والدولمة والمعجنات، في محاولة لإضافة مبالغ أخرى إلى راتبها المتواضع.
تقول في حديث صحفي، أن "الراتب الحكومي يُغطي التزامات مالية معينة ندفعها مباشرة بعد أن نتسلمه، مثل إيجار المنزل ونفقات دراسة الأولاد ومبالغ اشتراك المولدة واشتراك الانترنيت، وغيرها"، لافتة إلى أن "الراتب الشهري ينفد خلال أول يومين من مطلع الشهر، ما يضطرنا إلى مزاولة أعمال أخرى لتغطية النفقات اليومية".
وأصبح مشهد الموظفين الذي يمتهنون أعمالاً أخرى في المحال التجارية ومكاتب وشركات القطاع الخاص أمراً مألوفاً في العراق. وبات من النادر أن ينهي الموظف عمله الحكومي وينصرف إلى منزله من دون التوجه لعمل آخر، بسبب الضغوطات الاقتصادية التي باتت تعصف حتى بطبقة الموظفين. فهناك فجوة واسعة بين الدخل الشهري للموظف، والحاجة الفعلية التي تصل إلى نحو ضعف ذلك الدخل.
حاجة ملحّة
من جانبه، يقول الخبير الاقتصادي أحمد عبد ربه أن "العمل الإضافي للموظف لم يعد خياراً ثانوياً أو طموحاً شخصياً، بل أصبح ظاهرة بارزة تعكس الحاجة الملحّة لتغطية متطلبات المعيشة التي لم تعد الرواتب الحكومية قادرة على مجاراتها".
ويشير في حديث صحفي إلى أن "هذه الظاهرة تكشف عن خلل واضح في التوازن الاقتصادي. حيث لا يتناسب دخل الموظف مع ارتفاع تكاليف الحياة اليومية، ما يعكس هشاشة النظام الاقتصادي في توفير دخل كافٍ مقابل الجهد المبذول في الوظيفة الأساسية".
ويؤكد عبد ربه أن "الحل لا يكمن في منع الموظف من العمل الآخر، بل في إجراء إصلاحات جوهرية تمس سلم الرواتب، مع تفعيل القطاع الخاص ليكون بيئة قادرة على استيعاب الطاقات الشابة بدلاً من تركها تتعرض للمنافسة على المهن الحرة، من قبل موظفين حكوميين".
ويلفت إلى أن "هناك معايير وآليات كانت تستند لها الحكومة في صرف الرواتب، تتضمن الراتب الاسمي والشهادة والدرجة الوظيفية ومخصصات الزوجية والأولاد، إضافة إلى بعض الحوافز والساعات الإضافية في بعض المؤسسات. بيد ان هذه الإجراءات لا تحمي معظم الموظفين، بسبب المبالغ الهشة التي يحصلون عليها من مجموع هذه الآليات الإدارية".
وفي الوقت الذي تكشف فيه ظاهرة ارتباط العديد من الموظفين بعمل آخر عن أزمة اقتصادية عميقة وخلل كبير في سلم رواتب لم يعد يتناسب مع التضخم وارتفاع الأسعار، تنجم عن ذلك أيضاً مشكلات اقتصادية واجتماعية. فمن الناحية الاقتصادية تتضرر الطبقات العاملة في القطاع الخاص والعمل الحر، وتشعر بمضايقة الموظفين الحكوميين عملها، ما يخلق فجوة كبيرة بين من يحصل على أكثر من فرصة عمل، ومن يعاني انعدام الفرصة – حسب ما يفيد به اختصاصيون في مجال الاقتصاد.
ضغط العمل
إلى ذلك، توضح الباحثة في علم النفس مناهل الصالح، أن "ضغط العمل الناتج عن الانشغال في وظيفتين يضعف قدرة الموظف على التواصل مع أسرته. فهو لن يتمكن من الترفيه عن الأسرة والأولاد والتفرغ لهم وسد احتياجاتهم، حتى العاطفية والنفسية".
وتنوّه في حديث صحفي إلى أن "المعادلة الشاقة في هذا المقياس، هي التأرجح بين إيجاد توازن مالي والحفاظ على حياة اجتماعية مستقرة".
وفي ظل راتب حكومي محدود ومعيشة مُكلفة، يجد الموظف نفسه منهمكا في أكثر من عمل تُتعبه بدنياً ونفسياً. كل ذلك من أجل أن يضمن لأسرته الحد الأدنى من العيش.
فيما يحذر خبراء من انعكاسات هذه الظاهرة على الاقتصاد والمجتمع وجودة الخدمات العامة، مؤكدين أن لا حلول لهذه المعادلة سوى القيام بإصلاحات جذرية تعيد للوظيفة الحكومية قيمتها وتمنح الموظف شعوراً بالأمان المعيشي، مع دعم الطبقات الكادحة التي تزاول أعمالا حرة، وحمايتها من المزاحمة والتنافس.