اخر الاخبار

كشف التقرير السنوي للواقع الأمني والجنائي في محافظة ذي قار عن تسجيل 117 حالة انتحار خلال عام 2024 في مؤشر ينذر بارتفاع الضغوط النفسية والاجتماعية بين الشباب.

ويشير خبراء ومختصون إلى أن هذه الظاهرة تعكس تأثير مجموعة من العوامل المتشابكة، تشمل الفقر والبطالة والمشاكل الأسرية، إضافة إلى نقص خدمات الصحة النفسية وغياب المرافق الترفيهية، فضلاً عن تأثير وسائل التواصل الاجتماعي والتطرف الديني.

وتطرح هذه الأرقام سؤالاً عاجلاً حول الإجراءات الحكومية والمجتمعية المطلوبة للحد من تفاقم هذه الظاهرة وحماية الشباب من الانزلاق نحو خيارات مأساوية؟

أرقام تتضاعف!

وذكرت بيانات المؤتمر التحليلي للواقع الأمني والجنائي السنوي الثاني عشر، الذي عقدته شرطة ذي قار مطلع عام 2025، عن تسجيل 117 حالة انتحار خلال عام 2024 مقارنة بـ87 حالة في 2023، بزيادة قدرها 34 في المائة.

وعزت البيانات أسباب هذه الظاهرة إلى الاكتئاب الشديد، القلق، المشاكل الأسرية والمالية والصحية المزمنة، إضافة إلى الشعور بالوحدة والتعرض للعنف.

وتشير الإحصاءات إلى أن حالات الانتحار في ذي قار تضاعفت ثلاث مرات منذ عام 2016 حين سُجلت 48 حالة فقط، لتصل إلى 53 حالة عام 2017، قبل أن تنخفض إلى 51 حالة في 2018، ثم ارتفعت إلى 55 حالة في 2019، و80 حالة في 2020، و83 حالة في 2021، و105 حالات في 2022، وانخفضت مجددا إلى 87 حالة في 2023، قبل أن تقفز إلى 117 حالة في 2024، معظمها بين الشباب والشابات.

الفقر والبطالة أبرز الاسباب

يقول حسين العامل، ناشط وصحفي من المحافظة، أن ارتفاع معدلات الفقر والبطالة بين الأسر والشباب والمعاقين يعد من أبرز الأسباب التي تؤثر سلباً على الحالة النفسية للشباب، ما يؤدي إلى شعور باليأس والإحباط قد يصل بالبعض إلى الانتحار.

ويضيف العامل لـ "طريق الشعب"، أن "بعض الحالات ترتبط بالتطرف الديني"، مشيراً إلى حركة القربان التي تدعو أتباعها أحياناً إلى الانتحار لإثبات ولائهم المذهبي، وهو ما ظهر في عدة حالات سُجلت في المحافظة.

كما لفت إلى أن بعض حالات الانتحار تتضح لاحقاً أنها مرتبطة بـ"جرائم الشرف"، خاصة ضد النساء، حيث تُسجل في البداية كحالات انتحار قبل أن يكشف التحقيق أنها جرائم تهدف إلى “غسل العار”.

وتحدث العامل أيضاً عن دور المشاكل الأسرية، مثل التفكك الأسري وحالات الطلاق، إضافة إلى الأمراض النفسية والخجل المجتمعي الذي يمنع كثيرين من طلب العلاج، ما يزيد من احتمالية الانتحار.

ولم يغفل العامل الحديث عن غياب الأماكن الترفيهية والمنتديات الرياضية العامة في المدينة، والتي يمكن أن توفر للشباب متنفساً صحياً لهواياتهم وطاقاتهم، مؤكداً أن غياب هذه المرافق يفاقم الشعور بالإحباط واليأس.

ويُعد هذا الارتفاع في حالات الانتحار مؤشراً مقلقاً يدعو الجهات المعنية إلى اتخاذ إجراءات عاجلة لمعالجة الأسباب الاجتماعية والنفسية والاقتصادية الكامنة وراء هذه الظاهرة.

الصحة النفسية غائبة

علي عودة، ممرض وناشط من محافظة ذي قار، قال أن الظاهرة مرتبطة بعدة عوامل مترابطة، تتجاوز مجرد البعد الاقتصادي، مردفا أن الجانب الاقتصادي مهم بالطبع، لكنه ليس العامل الوحيد.

وأضاف أن المشكلة الأساسية تكمن في نقص خدمات الصحة النفسية في المحافظة، حيث لا يتوفر سوى أربعة أطباء أخصائيين نفسيين، في مقابل عدد سكان يزيد على مليوني نسمة. واعتبر أن هذا النقص الحاد في الخدمات النفسية يعد عاملاً مؤثرًا بشكل مباشر على ارتفاع حالات الانتحار، خاصة مع تفاقم الضغوط الاجتماعية والعائلية.

وأوضح عودة لـ"طريق الشعب"، أن الضغوط النفسية داخل الأسرة تمثل جانبا مهما أيضا، فهي تضيف عبئا إضافيا على الشباب الذين يواجهون صعوبات اقتصادية واجتماعية متزايدة.

وزاد بالقول: إن وسائل التواصل الاجتماعي أسهمت بشكل كبير في تفاقم المشكلة، مشيرا إلى أن الشباب أصبحوا يتأثرون بالمسلسلات والأفلام والقصص الوثائقية المنتشرة على الإنترنت، ما يجعلهم يرون الانتحار كخيار في مواجهة الضغوط أو كحل لمشاكلهم، وهو ما لم يكن موجودا بنفس القوة قبل ثورة الإنترنت وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي.

ويؤكد علي ان هناك حاجة ملحة إلى توسيع خدمات الصحة النفسية في ذي قار، ومراعاة الجوانب الاقتصادية والاجتماعية، بالإضافة إلى توعية الشباب حول مخاطر الانتحار وطرق التعامل مع الضغوط النفسية.

تفاقم الإحباط واليأس بين الشباب

فيما قال الباحث الاجتماعي من مدينة الناصرية سامر الربيعي، أن معالجة هذه الظاهرة تتطلب حلولاً جذرية لأسبابها الأساسية، وعلى رأسها البطالة والفقر، وغياب فرص العمل المناسبة.

واضاف الربيعي لـ"طريق الشعب" أن منصات التواصل الاجتماعي تلعب دورًا كبيرًا في تفاقم الإحباط واليأس بين الشباب، إذ تروج لصور حياة مثالية للمشاهير تجعلهم يقارنون أنفسهم بها ويشعرون بعدم الكفاية.

ونبه ايضا الى أن التفكك الأسري يفاقم المشكلة عبر غياب الدعم العاطفي والنفسي، ما يعزز شعور الشباب بالوحدة والعزلة. كما شدد على أن تعاطي المخدرات يزيد من تدهور الصحة النفسية ويعزز توجه البعض نحو خيارات مأساوية مثل الانتحار.

ولفت إلى أن غياب المرافق العامة والترفيهية كالملاعب ودور السينما والمتنزهات يساهم في تعميق مشاعر الإحباط لدى الشباب الفقراء، مؤكدًا أن توفير هذه الأماكن بشكل مجاني أو بأسعار رمزية يمثل ضرورة ملحة.

وأوضح أن غياب مؤسسات تحتضن طاقات الشباب وتطور مهاراتهم دفع بالكثير منهم إلى ارتياد المقاهي التي قد تتحول إلى بؤر لتعاطي المخدرات، مستغربا ضعف البرامج الحكومية في مواجهة هذه الظاهرة.

وأشار الربيعي إلى أن الضغوط النفسية الناتجة عن المشاكل الأسرية، إضافة إلى إصرار بعض العائلات على تحقيق أبنائها معدلات دراسية تفوق قدراتهم، قد تدفع الطلبة إلى الانتحار عند الفشل، مؤكدًا أهمية دور المرشد التربوي في تقديم الدعم والإرشاد. كما أشار إلى أن التفاوت الطبقي وانتشار أفكار متطرفة، مثل حركة القربان التي تتبنى الانتحار كوسيلة لإثبات الولاء المذهبي، يمثل عامل خطر إضافي يفاقم معدلات الانتحار.

وشدد الربيعي على ضرورة تكامل الجهود الحكومية والمجتمعية لمعالجة الظاهرة، عبر توسيع خدمات الصحة النفسية، ودعم الشباب اقتصاديا، وتعزيز الوعي المجتمعي حول مخاطر الانتحار، والتأثيرات السلبية لوسائل التواصل الاجتماعي والمخدرات، مع التركيز على توفير بيئة آمنة ومساندة للشباب لمواجهة الضغوط النفسية والاجتماعية.