( 1 )

شاعت ومنذ عام 1980 طريقة تكاد تكون غريبة في توصيل الشعر الشعبي العراقي إلى المتلقين من خلال مهرجانات مناسباتية غرضية ، رسمية وغير رسمية .

الطريقة الغريبة هذه ، لا علاقة لها اساساً بفن الإلقاء الشعري الذي يقوم على الهمس والصمت والإيحاء والحركة الجسدية وتموجات الصوت ارتفاعاً وانخفاضاً تناسباً مع ضرورات تمليها طبقات النص الإيقاعية المتداخلة مع اللغة والمعنى ،كي يكون التلقي مشاركة تفاعلية مع مولّد النص،بعيداً عن توفير تسليات طربية جاهزة . وفن الإلقاء الشعري هذا يتوافر عليه الشعراء المثقفون بكل تأكيد ، إلا أن َّ الكثيرممن ينظمون الشعر الشعبي يعتمدون في الإلقاء الطريقة الغريبة التي أشرت اليها ، الا وهي طريقة /الصراخ/ النشاز من دون تبرير شعري/ صوتي. انَّ الصراخ الذي أصبح ظاهرة ،سواءً كان في المهرجانات أو في الفضائيات ،ماهو الّا دليل عجزتكويني كامن في فنية وجمالية النص،عجزضعف الشعرية والشاعرية وكل مقوّمات التوليد والبناء،وبالتالي انعدام كمية الشعر في النص،وبذلك يتدحرج مثل هذا النص خارج منطقة الاستجابة،استجابة الانصات والتلقي.

يسود صمت المتلقي استغراباً ،ويحس ( الشاعر) اتساع الفجوة، عندئذٍ يحاول الإستدراك،لكنه استدراك الصراخ،كي يكسب التصفيق لاغير،ظانّاً ان هذا الصراخ تعويض عمّا فقده النص .

( 2 )

في مذكراته ( أشهد أني قد عشت ) يقول الشاعر الكبير /  بابلو نيرودا  / .. : ذات يوم جاء بضعة رجال في سيارة يبحثون عني، فدخلت إلى السيارة من دون أن  أعرف إلى أين ولماذا أنا أمضي معهم في هذه السيارة. كنت أحمل معي في جيبي نسخة من ديواني ( إسبانيا في القلب). ثم شرحوا لي في السيارة أني مدعو لكي ألقي محاضرة في نقابة الحمّالين.

حين دخلت إلى تلك القاعة غير المرتبة،شعرت بالبرد،ليس بسبب فصل الشتاء المتقدم في زمهريره وأمطاره فحسب،بل كذلك بسبب ذلك الجو في تلك القاعة، الذي جعلني مندهشاً مرتعداً.

كان يجلس على صناديق خشبية أو مقاعد ليست بمقاعد أكثر من خمسين رجلاً،بعضهم بقميص مرقّع وبعضهم الآخريتحدى البرد ببدنه العاري.جلست خلف طاولة صغيرة تفصلني عن ذاك الجمهور الغريب العجيب، كانوا جميعاً ينظرون إليَّ بعيون فحمية ساكنة،عيون شعب بلدي. ماهو أكيد أني فكّرت أن اقرأ بضعة ابيات ثم أودعهم،لكن َّ الأشياء لم تجرِ هكذا ، عندما شرعت أقرأ قصيدة إثر قصيدة مدفوعاً بإحساسيأ أن َّ هنالك سكوناً عميقاً يسود ، وأن َّ كلماتي تتساقط فيه كما لو كان ماءً عميقاً، وا أنَّ عيوناً تعلوها حواجب داكنة كثيفة الشَعر تتابع شعري في اهتمام بالغ، أدركت أنَّ كتابي قد بلغ غايته وحقق غرضه، فمضيت أقرأ وأقرأ متأثراً أنا نفسي بنغم شعري،مهتزاً بالعلاقة المغناطيسية بين أشعاري وبين تلك الأرواح المهجورة.قبل أن أنسحب،نهض واحد من الرجال قائلا ً :

إننا لم ننفعل من قبل كما انفعلنا ونحن نصغي الى اشعارك.

تجربة نيرودا تلك ، درس في الإلقاء والتوصيل وبلوغ الغاية من دون صراخ...

عرض مقالات: