اخر الاخبار

في خضم الاعتماد شبه الكلي على عوائد النفط كمصدر رئيس لتمويل الموازنة العامة للبلاد، تطفو على السطح تحذيرات متكررة من مخاطر تراكمية تهدد استقرار العراق ماليا، لا سيما مع تذبذب الأسعار العالمية، وتصاعد الضغوط الداخلية على الاحتياطي النقدي الأجنبي.

ويحذّر اقتصاديون من أن البلاد تقف على حافة منحدر خطر، قد يؤدي إلى اهتزاز الثقة بالعملة المحلية واختلال التوازنات الكلية، خاصة مع استمرار النمط التقليدي في الإنفاق العام غير المدعوم بإصلاحات هيكلية. 

ويشير الخبير الاقتصادي د. نبيل المرسومي إلى أن تراجع الاحتياطي الأجنبي بمقدار 15 مليار دولار خلال 2024، وارتفاع حوالات النافذة إلى 81 مليار دولار، يعكسان فجوة تآكلية تهدد قدرة البنك المركزي على الحفاظ على سعر الصرف الثابت، وهو ما قد يُفاقم أزمات سابقة كتلك التي عصفت بالبلاد عامي 2014 و2020. ومن جهة أخرى، يرى المستشار الحكومي د. مظهر محمد صالح أن الوضع "مطمّن" طالما التزمت الدولة بحدود اقتراض لا تتجاوز 3% من الناتج المحلي الإجمالي. 

لكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل يكفي التطمين لمواجهة سيناريوهات الانهيار المحتملة، خصوصًا مع استمرار الهشاشة الهيكلية لاقتصاد ريعي، لم ينجح في تنويع موارده؟ الواقع يشير إلى أن العراق، رغم تحسن أسعار النفط مؤقتًا، لم يستثمر الفرص السابقة لبناء صندوق سيادي أو خفض الدين العام، بل زاد من اعتماده على الإنفاق التضخمي، ما يجعله عُرضة لأي صدمة خارجية مفاجئة.

وهنا تبرز أزمة الحوكمة المالية كخيط ناظم في المشهد: فالإفراط في الإنفاق، وغياب الشفافية، وتراكم الديون، كلها عوامل تذكر بضرورة الانتقال من "إدارة الأزمات" إلى "بناء المناعة الاقتصادية"، قبل فوات الأوان. 

الاحتياطي النقدي.. خط أحمر

ويجد المرسومي، أن "الدول تتعامل مع الاحتياطي النقدي الأجنبي كخط أحمر، حيث يعتبر هذا الرصيد داعمًا أساسيًا لسعر التعادل الثابت للعملة تجاه العملات الأجنبية"، مؤكداً أن "خصم الحوالات يعتبر دينًا داخليًا، وعندما يكثر خصم الحوالات، فإن ذلك يؤثر على رصيد البلد وقدرته على دعم سعر التعادل الثابت للعملة".

ويقول إن الحكومات المتعاقبة لم تتعظ من تجارب الآخرين، ولا من تجارب الماضي، حيث واجه العراق انخفاضًا في أسعار النفط في أعوام سابقة مثل 2014 و2020، ما أدى إلى أزمات مالية وارتفاع الدين العام.

ويضيف، أن "الفائض الذي تحقق في عهد الحكومة السابقة والبالغ 23 تريليون دينار لم يتم استثماره بشكل صحيح، عبر وضعه في صندوق سيادي، بل تم استخدامه في الإنفاق العام، ما أدى إلى نفاد هذا الفائض".

انخفاض بمقدار 15 مليار دولار

وينبه المرسومي إلى أن الاحتياطي الأجنبي انخفض خلال العام الماضي بمقدار 15 مليار دولار، وذلك بسبب ارتفاع مبيعات البنك المركزي العراقي من خلال النافذة التي بلغت 81 مليار دولار، في حين كانت مشتريات البنك من الدولار من وزارة المالية أقل من هذا الرقم، مشيراً إلى ان "هذه الفجوة تؤدي إلى بدء مسار تنازلي في الاحتياطي الأجنبي، حيث يبدأ الاحتياطي بالنفاد مع استمرار المركزي بيع كميات كبيرة من الدولار مقابل مشتريات أقل".

ويحذر المرسومي من أنه "في حال واجه العراق أزمة مالية، فإن رصيد وزارة المالية من العملة الأجنبية سينخفض، ما يؤثر على مبيعات البنك المركزي مقابل زيادة كبيرة في حجم مبيعاته عبر النافذة. وهذا سيؤدي بالتأكيد إلى استمرار المسار التنازلي للاحتياطي الأجنبي، والذي بدأ بالفعل منذ العام الماضي، وقد يتصاعد بشكل حاد خلال هذا العام".

ويقول المسؤول السابق في البنك المركزي العراقي محمود داغر، أن طرح السندات المالية يساعد في دعم العجز النقدي، ويكون ديناً على الحكومة.

ويضيف داغر، أن "عملية طرح السندات المالية لا يشترط أن يكون هناك عجز مالي، حيث أن كثيرا ما تطرح السندات لغرض توفير أدوات مالية وتشجيع السوق المالية في البلد"، مشيرا الى أن "ما يطرح من سندات من قبل وزارة المالية، يساعد في دعم العجز الذي قد يكون مؤقتا وليس دائما".

وينوه المرسومي بالقول: إنّ "العراق يعاني حاليا من صعوبات مالية كبيرة، حيث أصبح الدين الداخلي الأكبر في تاريخ البلاد، إضافة إلى الوضع المالي غير الرصين، بسبب الإفراط في الإنفاق العام وعدم ترشيد المالية العامة"، متسائلا عن "مصير الاقتصاد العراقي في حال انخفض سعر النفط إلى 65 دولارًا للبرميل، حيث ستكون الأوضاع أكثر خطورة على البلاد؟".

وطبقا لرئيس مؤسسة عراق المستقبل للتحليل الاقتصادي منار العبيدي، فان الدين الداخلي للعراق شهد زيادة كبيرة بمقدار 13 تريليون دينار عراقي خلال عام واحد.

وبحسب البنك المركزي، فإن الدين الداخلي للعراق وصل إلى 81 تريليون دينار عراقي في شهر تشرين الثاني 2024.

تصورات حكومية مطمئنة

من جانبه، قدّم المستشار المالي لرئيس الوزراء، الدكتور مظهر محمد صالح، تصورات مطمئنة بشأن الوضع المالي للعراق.

وقال صالح، إن "نسبة تغطية العملة الأجنبية إلى عرض النقد متعادلة وفق معايير الاستقرار النقدي المعتمدة، ولا توجد أي مشكلة في هذا الجانب"، مضيفا أن "الرقم القياسي العام السنوي للأسعار بلغ نموًا بنسبة 3%، وهو يعتبر معتدلاً في المقاييس المحلية ويشير إلى استقرار نسبي".

وشدد صالح على ضرورة السير في مبدأ الانضباط المالي، والذي أطلق عليه "التعزيز المالي"، من خلال اتجاهين رئيسيين: الأول هو خفض رصيد الدين العام بكل أشكاله تدريجيًا من خلال مؤشرات الموازنة العامة الاتحادية، والثاني هو عدم تجاوز العجز السنوي الممول بالاقتراض نسبة 3% من الناتج المحلي الإجمالي سنويًا.

وأوضح صالح، أن "تحقيق هذين الهدفين يعد من لوازم الاستدامة المالية في مواجهة أية مفاجآت قد تنتج عن دورة الأصول النفطية وتأثيرها على أوضاع الموازنة العامة"، مشيراً إلى أنّ "العراق يسعى إلى تنويع مصادر الدخل الوطني، حيث يشكل الإنفاق الحكومي قرابة 50% من إجمالي الدخل السنوي، وتصل آثاره إلى أكثر من 85% في تحريك مفاصل الاقتصاد ونشاط السوق".

وسجلت مبيعات البنك المركزي العراقي، أمس الأربعاء، نسبة تجاوزت 97% من إجمالي الحوالات الخارجية.

وباع البنك في مزاده، يوم أمس، 287 مليوناً و406 آلاف و857 دولاراً، وغطاها بسعر صرف أساس بلغ 1310 دنانير لكل دولار للاعتمادات المستندية والتسويات الدولية للبطاقات الإلكترونية، وبالسعر ذاته للحوالات الخارجية، فيما بلغ سعر الصرف 1305 دنانير لكل دولار في المعاملات النقدية.

وخصصت معظم مبيعات الدولار لتعزيز الأرصدة في الخارج على شكل حوالات واعتمادات، حيث بلغت قيمتها 278 مليوناً و556 ألفاً و857 دولاراً، بنسبة 97.49%، مقارنة بالسحوبات النقدية التي بلغت 7 ملايين و850 ألف دولار.

عرض مقالات: