أنهى مجلس النواب فصله التشريعي الأول من سنته الرابعة والأخيرة، في أجواء إحباط وخيبة أمل شعبية واسعة، وأداء يُعدّ الأضعف في تاريخ التجربة البرلمانية بعد 2003.
دورة نيابية امتدت لسنوات أربع، ولم تثمر سوى مزيد من الانسداد السياسي والتراجع المؤسسي، حيث غابت عنها التشريعات الجوهرية، وشُلّت فيها أدوات الرقابة، فيما تحوّلت جلساتها إلى مناسبات متقطعة يغلب عليها التوافق المصلحي لا الدستوري.
وبينما تُطوى فصول هذه الدورة، يتفق مراقبون على أنها جسّدت أسوأ نماذج العمل النيابي، بعدما خضعت أولويات المجلس لإرادة الأحزاب المتنفذة والفاسدين، لا لمصالح الشعب والدولة. فالبرلمان الذي يُفترض أن يكون سلطة رقابة وتشريع، تحوّل في نظر كثيرين إلى أداة روضتها السلطة التنفيذية، ومظلة لتقاسم النفوذ والامتيازات.
اين الخلل؟
في هذا الشأن، يرى الأكاديمي والقانوني وائل منذر أن الأزمة البنيوية في مجلس النواب العراقي لا تنحصر في ضعف الأداء فحسب، بل تعود إلى خلل عميق في آلية تشكيله وبنية الأحزاب السياسية المهيمنة داخله، ما جعله مؤسسة فاقدة للفاعلية ومنفصلة عن متطلبات اللحظة السياسية والتشريعية في البلاد.
واوضح في حديث لـ "طريق الشعب"، أن "أحد أبرز أسباب هذا التردي يتمثل في نظام الدوائر المتوسطة الذي أفرز نواباً يشعرون بأنهم غير ملزمين بالانصياع لقرارات كتلهم أو أحزابهم، ما عمّق حالة التشتت داخل المجلس"، مضيفاً ان "الأحزاب السياسية نفسها لا تؤمن بالديمقراطية الداخلية، وقراراتها تُفرض من القمة دون أي تداول أو تشاور مع قواعدها، ما أدى إلى تململ واسع داخل الكتل البرلمانية”.
وأشر في سياق حديثه غياب المعارضة النيابية الفاعلة، قائلاً إن “الكتلة الأكبر أصبحت مطلقة اليد في إنتاج القوانين وفرض إرادتها، ما أفرغ البرلمان من مضمونه كسلطة تشريعية ورقابية متعددة الأصوات”.
ويعتقد منذر، ان هذا الغياب "خلق حالة استرخاء سياسي خطرة انعكست على الأداء الضعيف لأعضاء البرلمان في مواجهة تحديات داخلية وإقليمية متسارعة”.
وانتقد منذر شلل الوظائف الثلاث الأساسية لمجلس النواب: التشريع، الرقابة، والموازنة. وقال ان “عدد القوانين التي شُرعت فعلياً لا يُقارن بحجم المشاريع التي كان يجب إنجازها، سواء تلك المقدمة من الحكومة أو مقترحات النواب أنفسهم، منها قانون المحكمة الاتحادية، قانون النفط والغاز، وغيرها من القوانين الجوهرية التي بقيت طيّ الإهمال”.
وحول الجانب الرقابي، لفت إلى أن المجلس لم يُفعّل أدوات الاستجواب بشكل جاد، موضحاً أنه “خلال هذه الدورة، لم يُجر سوى استجواب واحد، انتهى باستقالة المستجوَب دون تصويت، وكان الاستجواب ذا طابع سياسي أكثر من كونه رقابياً”.
وفي ما يخص الموازنة، وصف ما حصل بـ”التحايل التشريعي”، قائلاً: “ابتكر المجلس حيلة قانونية بالاستناد إلى قانون الإدارة المالية لتمرير موازنة ثلاثية، ما أتاح له التهرب من مناقشتها سنوياً، دون أن يطالب الحكومة بتقديم الحسابات الختامية، رغم أنها من صلب واجباته الرقابية”.
وختم منذر تصريحه بدعوة إلى "إعادة إنتاج المشهد السياسي عبر إشراك الأغلبية الصامتة والمقاطعة، التي قال إنها تشكل ما يقرب من 80 في المائة من الناخبين، فمشاركة هذه الكتلة الكبيرة من المواطنين قد تفرز قوى سياسية جديدة تخلق توازناً داخل البرلمان، وتفرض على الأغلبية تحسين أدائها أو تعريتها أمام الرأي العام، ما يعيد للسلطة التشريعية هيبتها ودورها الحقيقي”
الدورة الأسوأ
من جهته، أكد القاضي المتقاعد وعضو مجلس النواب السابق، وائل عبد اللطيف، أن الدورة البرلمانية الحالية تُعد من أسوأ الدورات في تاريخ مجلس النواب العراقي، مشيراً إلى غياب الانضباط وتحول عدد من النواب إلى “معقبين” يتنقلون بين الوزارات، بدل الانكباب على مهامهم التشريعية والرقابية.
وقال في حديثه لـ"طريق الشعب"، انه منذ تأسيس مجلس الحكم، مروراً بالجمعية الوطنية، وصولاً إلى البرلمان بدوراته المتعاقبة "لم نشهد تراجعاً في الأداء كما هو الحال في الدورة الخامسة الحالية، حيث أصبح من المعتاد عدم اكتمال النصاب، ما يؤدي إلى تعطيل انعقاد الجلسات، إلى جانب تمرير القوانين بأسلوب ‘السلة الواحدة’ وغيرها من الممارسات المرفوضة”.
وأشار إلى أن هذه الدورة لم تفشل على صعيد التشريع فحسب، بل أخفقت أيضاً في أداء دورها الرقابي.
وأضاف “لم نسمع يوماً أن البرلمان استجوب وزيراً أو رئيس هيئة أو محافظاً أو وكيلاً لوزارة. الفساد بلغ عنان السماء، والرقابة غائبة تماماً. كل ما رأيناه هو زيادة رواتب النواب بنسبة 30%، دون الرجوع إلى الجهات المالية المختصة، وهو أمر مخالف من الأساس”.
ووصف عبد اللطيف غياب الموازنة حتى الآن بأنه “أحد أبرز تجليات فشل الأداء البرلماني”، مشيرا الى أن “الواجب كان يقتضي من مجلس النواب الضغط على رئيس الوزراء لتقديم الموازنة، لا التراخي في أداء هذه المهمة الأساسية”.
وانتقد أيضاً تعطل عمل اللجان النيابية، قائلاً إنها “ابتعدت عن مهامها الأساسية، وفشلت في تقديم أي جهد ملموس يعكس طبيعة دورها التشريعي والرقابي”.
واختتم عبد اللطيف تصريحه بالقول انه “منذ أول دورة برلمانية عام 2006 حتى اليوم، لم نرَ تراجعاً مماثلاً. لدينا قانون مجلس النواب رقم 13 لسنة 2018، ولدينا النظام الداخلي، أي أن الضوابط موجودة، لكن لا أحد يلتزم بها. الخلل واضح في أداء رئاسة المجلس، بدءاً من الرئيس مروراً بالنائبين الأول والثاني، فالجميع يتحمل مسؤولية تردي الأداء التشريعي والرقابي”.
أداء هزيل وهيمنة حزبية
من جهته، وصف الناشط السياسي زين العابدين البصري الدورة الحالية لمجلس النواب بأنها إحدى أسوأ الدورات في تاريخ العملية السياسية العراقية، مشيراً إلى غياب الدور الحقيقي للسلطة التشريعية في التشريع والرقابة، مقابل حضور طاغٍ لممارسات زبائنية وانحياز فاضح للولاءات الحزبية على حساب المصلحة العامة.
وفي حديث مع "طريق الشعب" قال "اننا شهدنا في هذه الدورة البرلمانية أداء لا يرتقي لطموحات الشارع العراقي، حيث غُيبت العديد من القوانين المهمة، فيما طُرحت قوانين أخرى بشكل مرتجل، مثل العفو العام غير المدروس، وقانون الأحوال الشخصية الذي ينطوي على انتهاكات واضحة لحقوق الإنسان”.
وأشار إلى أن كثيراً من النواب "مارسوا أدواراً تنفيذية تجاوزت صلاحياتهم، عبر تقديم خدمات مناطقية مثل تبليط الشوارع، أو نصب محولات كهربائية، أو التوسط في التعيينات، وهو ما أدى إلى تحويل مكاتب النواب إلى أدوات لشراء الولاء الانتخابي، لا لممارسة العمل النيابي الرقابي والتشريعي كما ينبغي”.
وتابع البصري، “شهدنا غيابات متكررة عن الجلسات، وانعدام الشعور بالمسؤولية، وكأن بعض النواب جاؤوا فقط لتقاضي الرواتب والمخصصات، دون أي التزام فعلي بمهامهم. وهم في الغالب ملتزمون بقرارات كتلهم السياسية، لا بمطالب ناخبيهم”.
ولفت إلى أن الحكومة كانت مرتاحة لهذه البنية البرلمانية، لأن القوى المهيمنة في البرلمان هي نفسها التي تدير السلطة التنفيذية، في ازدواج واضح بين الحكم والمعارضة.
وأضاف: “لم نشهد معارضة حقيقية داخل البرلمان، ولا رقابة فعالة، ولا حتى تشريعات نوعية تضمن كرامة المواطن وحقوقه الأساسية. كل ما رأيناه هو استنساخ لمنطق المحاصصة والطموحات الفئوية”.
وأشار إلى أن بعض النواب المستقلين والمعارضين حاولوا تقديم مواقف ناقدة، سواء عبر المؤتمرات أو تصريحات فردية، لكن أصواتهم بقيت ضعيفة أمام هيمنة الكتل الكبرى.
وقال: “هذا الواقع النيابي الهزيل لا يمكن أن يحقق الاستقرار السياسي أو يلبي مطالب الناس، بل يعمق الإحباط ويكرّس الانقسام بين المواطن والدولة”.
واتم حديثه بالقول: “ما نعيشه اليوم هو نتاج غياب التوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وغياب الفصل الحقيقي بين القوى الحاكمة والمعارضة. البرلمان تحول إلى واجهة حزبية، وليس مؤسسة دستورية تمثل الشعب بكافة مكوناته وطوائفه ولا تعبر عنه”.
موت سريري للبرلمان
من جانبه، قال النائب محمد الشمري إن "رئيس البرلمان قد أدخل المجلس في حالة موت سريري"، محذرًا من أن "بقاء العديد من القوانين المهمة والمعطلة دون إقرار رغم قصر عمر الدورة النيابية الحالية يمثل تقصيرًا غير مقبول بحق الشعب العراقي".
وكان النائب أمير المعموري، قد أكّد أن مجلس النواب العراقي يعاني من تعطّل تشريعي ورقابي واسع، مشيراً إلى وجود أكثر من 130 مشروع قانون لا تزال مركونة في أدراج المجلس دون حسم، بينما يتعذر تمرير 40 منها رغم جاهزيتها التامة، بسبب عدم انعقاد الجلسات بشكل منتظم.
وقال المعموري، إن "البرلمان لم يتمكن خلال الأشهر الماضية من عقد حتى 8 جلسات شهرياً، وهو مؤشر على حجم التعطيل التشريعي"، مضيفاً أن "بعض النواب لا نكاد نعرفهم لغِيابهم المستمر وإجازاتهم المتكررة، وعدم مشاركتهم بأي نشاط برلماني يذكر، سواء على مستوى التشريع أو الرقابة".
وأوضح أن "مجلس النواب لم يُنجز سوى استجوابين خلال هذه الدورة، في حين بقيت 7 استجوابات معلقة، فيما توجد أخرى قيد الإعداد"، مبيناً أن "البرلمان استضاف 7 وزراء إضافة إلى رئيس مجلس الوزراء، وكانت هذه الاستضافات بغرض الاستيضاح حول ملفات وقضايا محددة".
واتّهم المعموري بعض القوى السياسية بـ"التعطيل المتعمّد لملف استجواب المسؤولين المحسوبين عليها من وزراء وغيرهم"، مشددًا على أن "ما يتقاضاه النواب المتغيبون من رواتب ومخصصات هو حرام شرعًا، ويمثل خيانة لليمين الدستوري".
واختتم المعموري تصريحه بالإشارة إلى أن مجلس النواب أنهى فعليًا أعماله في هذه الدورة التشريعية بشكل مبكر، دون أن يحقق الحد الأدنى من التزاماته التشريعية والرقابية.